)وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ( البقرة:57 )
التفسير:
قوله تعالى:{وظللنا عليكم الغمام} أي جعلناه ظلاً عليكم ؛وكان ذلك في التيه حين تاهوا ؛وقد بقوا في التيه بين مصر والشام أربعين سنة يتيهون في الأرض ؛وما كان عندهم ماء ،ولا مأوى ؛ولكن الله تعالى رحمهم ،فظلل عليه الغمام ؛و{الغمام} هو السحاب الرقيق الأبيض ؛وقيل: السحاب مطلقاً ؛وقيل: السحاب البارد الذي يكون به الجو بارداً ،ويتولد منه رطوبة ،فيبرد الجو .وهذا هو الظاهر ..
قوله تعالى:{وأنزلنا عليكم المن}: يقولون:{المن} شيء يشبه العسل ؛ينْزل عليهم بين طلوع الفجر ،وطلوع الشمس ؛فإذا قاموا أكلوا منه ؛{والسلوى}: طائر ناعم يسمى"السُّمَانَى "،أو هو شبيه به ؛وهو من أحسن ما يكون من الطيور ،وألذه لحماً ..
قوله تعالى:{كلوا} الأمر هنا للإباحة ؛يعني أننا أبحنا لكم هذا الذي أنزلنا عليكم من المن ،والسلوى ؛{من طيبات ما رزقناكم}:{مِنْ} هنا لبيان الجنس ؛وليست للتبعيض ؛لأنهم أبيح لهم أن يأكلوا جميع الطيبات ..
قوله تعالى:{وما ظلمونا} أي ما نقصونا شيئاً ؛لأن الله لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة الطائعين ..
قوله تعالى:{ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}:{أنفسهم} مفعول مقدم ل{يظلمون}؛وقُدِّم لإفادة الحصر .أي لا يظلمون بهذا إلا أنفسهم ؛أما الله .تبارك وتعالى .فإنهم لا يظلمونه ؛لأنه سبحانه وبحمده لا يتضرر بمعصيتهم ،كما لا ينتفع بطاعتهم ..
الفوائد:
. 1من فوائد الآية: نعمة الله تبارك وتعالى بما هيأه لعباده من الظلِّ ؛فإن الظلّ عن الحرّ من نعم الله على العباد ؛ولهذا ذكره الله عزّ وجلّ هنا ممتناً به على بني إسرائيل ؛لقوله تعالى:{وظللنا عليكم الغمام} ،وقوله تعالى:{والله جعل لكم مما خلق ظلالًا} [ النحل: 81] ..
. 2ومنها: أن الغمام يسير بأمر الله عزّ وجلّ ،حيث جعل الغمام ظلاً على هؤلاء ..
. 3 .ومنها: بيان نعمة الله على بني إسرائيل بما إنزل عليهم من المن ،والسلوى .يأتيهم بدون تعب ،ولا مشقة ؛ولهذا وصف ب"المن "..
. 4ومنها: أن لحم الطيور من أفضل اللحوم ؛لأن الله تعالى هيأ لهم لحوم الطير .وهو أيضاً لحوم أهل الجنة ،كما قال تعالى:{ولحم طير مما يشتهون} ( الواقعة: 21 )
. 5ومنها: أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بنعمة فينبغي أن يتبسط بها ،ولا يحرم نفسه منها ؛لقوله تعالى:
{كلوا من طيبات ما رزقناكم} [ البقرة: 57]؛فإن الإنسان لا ينبغي أن يتعفف عن الشيء المباح ؛ولهذا قال شيخ الإسلام .رحمه الله:"من امتنع من أكل الطيبات لغير سبب شرعي فهو مذموم "؛وهذا صحيح ؛لأنه ترك ما أباح الله له وكأنه يقول: إنه لا يريد أن يكون لله عليه منة ؛فالإنسان لا ينبغي أن يمتنع عن الطيبات إلا لسبب شرعي ؛والسبب الشرعي قد يكون لسبب يتعلق ببدنه ؛وقد يكون لسبب يتعلق بدينه ؛وقد يكون لسبب يتعلق بغيره ؛فقد يمتنع الإنسان عن اللحم ؛لأن بدنه لا يقبله ،فيكون تركه له من باب الحمية ؛وقد يترك الإنسان اللحم ،لأنه يخشى أن تتسلى به نفسه حتى يكون همه أن يُذهب طيباته في حياته الدنيا ؛وقد يترك الإنسان الطيب من الرزق مراعاة لغيره ،مثل ما يذكر عن عمر رضي الله عنه في عام الرمادة .عام الجدب المشهور .أنه كان لا يأكل إلا الخبز والزيت ،حتى اسود جلده ،ويقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع{[98]}؛فيكون تركه لذلك مراعاة لغيره ؛إذاً من امتنع من الطيبات لسبب شرعي فليس بمذموم ..
. 6 ومنها: أن المباح من الزرق هو الطيب ؛لقوله تعالى: ( كلوا من طيبات ) .
. 7ومنها: تحريم أكل الخبيث ،والخبيث نوعان: خبيث لذاته ؛وخبيث لكسبه ؛فالخبيث لذاته كالميتة ،والخنْزير ،والخمر ،وما أشبهها ،كما قال الله تعالى:{قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنْزير فإنه رجس} [ الأنعام: 145] أي نجس خبيث ؛وهذا محرم لذاته ؛محرم على جميع الناس ؛وأما الخبيث لكسبه فمثل المأخوذ عن طريق الغش ،أو عن طريق الربا ،أو عن طريق الكذب ،وما أشبه ذلك ؛وهذا محرم على مكتسبه ،وليس محرماً على غيره إذا اكتسبه منه بطريق مباح ؛ويدل لذلك أن النبيصلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود مع أنهم كانوا يأكلون السحت ،ويأخذون الربا ،فدلّ ذلك على أنه لا يحرم على غير الكاسب ..
. 8ومن فوائد الآية: أن بني إسرائيل كفروا هذه النعمة ؛لقوله تعالى: ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
. 9ومنها: أن العاصي لا يضر الله شيئاً ؛وإنما يظلم نفسه ..