قوله: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى (ظللنا من التظليل وهو الستر وأصله الظل ومعناه الفيء الذي يغمر فيه المستظل ليحجب عن نفسه حر الشمس والغمام معناه السحاب الواقي الذي يصنع الظل ،ومفرده الغمامة وهي السحابة سميت بذلك ،لأنها تستر ما دونها نقول: غم الهلال أي ستر بغيم أو نحوه ،وفي الحديث الشريف فإن غم عليكم فأكملوا العدة ،أي إن سترت رؤية الهلال بغيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما .
والمعنى أن الله جلت قدرته قد من على بني إسرائيل في الصحراء الحامية فظللهم بالسحاب الواقي الرخي الذي يغمرهم بستار الفيء ،كيلا تلتفح وجوههم وجلودهم بحرارة الشمس الحارقة ،خصوصا وأنهم كانوا سادرين في التيه حيث الجفاف والقحط وحيث الشمس البارزة المتجلية التي تصلي من تحتها صلبا ،في هذا الجو الشديد الحامي أنعم الله على اليهود بأن سترهم بالغمام من فوقهم كأنما هي المظلة يثوي إليها الناس فتقيهم شر العوادي والبوائق .
قوله: (وأنزلنا عليكم المن والسلوى (أما تأويل (المن (فقد جاء فيه عدة أقوال للمفسرين وهي أقوال متقاربة تتراوح في تفسير المن بين اعتباره طعاما أو شرابا ،ولعل خير ما ورد في ذلك ما قاله الإمام المفسر ابن كثير وهو يعرض لأقوال المفسرين في حقيقة المن فقال: والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس فيه عمل ولا كد ،والمقصود الأهم أن المن ضرب من الطعام أو الشراب أو ما كان مختلطا من كليهما ،كان اليهود يتخذونه لهم قوتا سائغا شهيا وهم يجدونه متقاطرا فوق الصخور والأشجار دون أي عناء .
أما (السلوى (فإنها صنف من الطير يشبه السماني أو هي السماني نفسه ،وذلك طير نافع مأكول قد أفاض الله به على بني إسرائيل في سيناء ليأكلوا منه هنيئا مريئا من غير أن يجدوا في ذلك نصيبا ،وفي ذلك يقول لهم سبحانه: (كلوا من طيبات ما رزقناكم (والطيبات مفردها طيبة ،وهي من الفعل طاب يطيب نقول طاب الشيء فهو طيب إذا كان لذيذا أو حلالا ،والأمر في قوله: (كلوا (يفيد الإباحة فقد أباح الله لهم أن يستمتعوا بما رزقهم من حلال لذيذ ،وهي نعمة قد أفاشها الله عليهم في ساعات العسر ،وفي أحلك أوقات الشدة ،التي تجتمع فيها أهوال من الحر والجوع والارتباك والحيرة في مثل الصحراء اليابسة الجرداء التي تغيب فيها كل أسباب العيش والأمان .
ولا يكاد المتدبر يردد كلمات الله في هذا الصدد حتى يستذكر أحداثا من الأهوال والمآسي قد عانى منها أصحاب النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ،وهم يحتملون من الشدائد والكروب ما لا يقدر على احتماله بشر ،نقول ذلك ونحن نستذكر حالات الحروف والجوع والأذى التي كان يعاني منها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ،في مستهل دعوة الإسلام ،يوم أن تمالأ عليهم الناس من بني عشيرتهم وقومهم إذ كانوا يناصبون الكيد والشر ،ويتحرشون بهم ليضيقوا عليهم تضييقا ،ثم يأتمرون بهم ليوثقهم أو يخرجوهم أو يقتلوهم قتلا ،وفي طليعتهم القائد الملهم الفذ نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام ،وأصدق ما يرد في هذا الصدد ما نطق به القرآن الكريم: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (ومع ذلك كله فقد ثبت أصحاب النبي عليه السلام في وجه الكوارث والأهوال فما وهنوا أو استكانوا لما أصابهم ،وما تزعزعت عزائمهم أمام النوائب والكروب ،ولا شددوا على نبيهم في الطلب والدعاء ،ولكنهم ظلوا صابرين محتسبين إلى أن كتب الله لهم النصر المبين .
قوله: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (آتيناهم كثيرا من النعم والخيرات ،ورزقناهم كثيرا من الطيبات ،وخولناهم ذلك كله ليأكلوا منه ويتمتعوا به ثم ليعبدوا الله ويذعنوا له بالطاعة وتقديم الشكران ،لكنهم عصوا وفسقوا عن أمر الله فظلموا بذلك أنفسهم إذ أوردوها أتعس مورد ولم يظلمونا نحن فإننا لا يمسنا ظلم ولا يحيق بنا ضر أو لغوب .