وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[.توحي هذه الآية أنَّ بني إسرائيل كانوا يعانون من حرّ الشمس في الصحراء في رحلتهم الطويلة ،فأرسل اللّه إليهم الغمام ليظلّلهم ،وأنهم كانوا يشكون من الجوع ،فأنزل اللّه عليهم المنّ ،الذي قيل بأنه إمّا طعام يسقط على الشجر أو جميع النعم التي منّ اللّه بها عليهم .والسلوى الذي قيل: إنه طائر أبيض يشبه السماني أو هو السماني .ولكنَّهم لم يشكروا ،بل ظلّوا على تمرّدهم وظلمهم وبغيهم الذي أساؤوا به إلى أنفسهم ،لأنَّ ذلك لا يضر اللّه شيئاً ،فهو الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه ...وهذا ما أراد أن يثيره القرآن في وعي النّاس في ما يكلّفهم اللّه به من تكاليف في ما يفعلون وفي ما يتركون ،ليعرفوا أنَّ الشأن في ذلك كلّه هو هداية الإنسان لما يصلحه وإبعاده عمّا يفسده ،ما يجعل من المعصية ظلماً للنفس لا ظلماً للّه .
] وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ[ في رحلتكم الطويلة في الصحراء اللاهبة التي تشتد فيها حرارة الشمس ،فتثقل مسيرة السائرين وتكلّفهم جهداً كبيراً وعناءً عظيماً وآلاماً شديدة ،فكان الغمام الذي يحجب حرارة الشمس ويخفف من تأثيرها ،ويستبدل الجوّ الحار المحرق بجوّ ظليل منعش يمنح السائرين الإحساس بالاسترخاء الجسدي من خلال برودة الهواء ووداعة الظلال .
] وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى[ مما تتغذون به في هذه المسيرة الطويلة ،لئلا تواجهوا الجوع القاتل .والتعبير بالإنزال ،هنا ،يتضمن الإيحاء بالموقع الأعلى الذي يتمثّل في اللّه على عباده الذين هم في المنزلة الدنيا ،وليس بالتالي من الضروري أن يكون تعبيراً عن الإنزال المادي وإن كان محتملاً .
] كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[ فقد هيأ اللّه لكم طيبات الطعام من كلّ الأصناف الشهية مما أحله لكم ،ودعاكم إلى التمتع بها ،لأنَّ اللّه لا يريد لكم حرمان أنفسكم منها ،فليست القيمة في الحياة أن تجوعوا أو تظمأوا أو تلبسوا اللباس الخشن ...في ذاتية الجوع والظمأ والخشونة ،بل القيمة هي الإرادة الإنسانية القوية الواعية التي يملك الإنسان فيها نفسه في مواقع السلب أو الإيجاب ،بحيث لا يكون عبد الطيبات والملذات ،بل يكون سيّدها من حيث هو سيِّد نفسه في قوّة إرادته .
] وَمَا ظَلَمُونَا[ في انحرافهم عن خطّ الإيمان والعمل الصالح ،بالمعنى الذي توحي به كلمة الظلم من النتائج السيئة التي تصيب المظلوم من تصرفات الظالم ،لأنَّ اللّه هو الغني بذاته الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه أو إيمان من آمن به ،ولا تضره معصية من عصاه أو كُفر من كَفَر به ،] وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[ لأنَّ الكفر والانحراف يمثّلان خطّين من الخطوط المنحرفة عن القيمة الكبرى التي ترتفع بالإنسان إلى الدرجات العليا في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة ،ما يؤدي إلى الهلاك العاجل والآجل معاً .