بعد أن بعثهم الله تعالى ، أو كان ذلك مقارنا لخروجهم من مصر ، وهو الظاهر ؛ لأن هذه النعم ، وما كان منهم من حوادث جاء بعد أن أنجاهم الله تعالى من آل فرعون وفرق البحر بهم ، والواو لا تقتضي ترتيبا ، ولا تعقيبا ، لقد انتقلوا من الوادي الخصيب إلى صحراء تلفح الوجوه ، وليس فيها ظل ولا ظليل ، ولكن الله تعالى لم يتركهم في حرور الصحراء وجردائها بل أظلهم بالغمام ، وأمدهم بأطيب الطعام ، وأبركه ، فقال تعالى مبينا هذه النعمة:{ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى} .
أي جعلنا الغمام ، وهو السحاب الشديد العتمة ، اسم جنس جمعي للغمامة ، واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة أو ياء النسب ، مثل روم ورومي .
تكاثف الغمام في الصحراء ، حتى صار كمظلة تظلهم أينما ساروا فلا يحسون بوهج الحر يلفح وجوههم ، وقد شكوا من حر الشمس والجوع ، فأنزل الله تعالى رزقا طيبا:المن والسلوى .
والمن كان بدل الخبز ، وقد أصبحوا فوجدوه في الأرض صغيرا كحب الجزرة ، وكانوا يتناولونه كالرقاق التي اختلطت بعسل فالتقى فيه خواص الدقيق والعسل معا ، وسبحان الرزاق العليم ، فكان خبزهم ، فالمن على ذلك غذاء جيد ينزل من السماء ويبسط على الأرض في خواص الدقيق والعسل معا .
والسلوى طير ، كان يجيء إليهم يطير على مقدار رمح من الأرض أو يزيد قليلا ، فيأخذونه باليد من غير صيد أو أي محاولة ، وبذلك اجتمع لديهم كل عناصر الغذاء الكامل ، من غير كد ، ولا لغوب .
وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك الرزق الذي رزقهم الله تعالى إياه بقوله:{ وأنزلنا عليكم المن والسلوى} لأنه ما كان بكسب كسبوه ، ولكنه رزق الله تعالى من السماء أنزله إليهم لتطيب إقامتهم في الصحراء ، حتى يقضي الله تعالى أمره فيهم . فالإنزال معنوي لأنه بأمر الله تعالى لطفا بهم ورحمة ، وليكون ذلك معجزة فوق المعجزات التي توالت عليهم ، ومع ذلك جحدوا بآيات ربهم ، ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أنه مكن لهم ذلك تمكينا ، فقال سبحانه:{ كلوا من طيبات ما رزقناكم} وقد وصف الله سبحانه وتعالى ذلك الطعام بأنه طيب ، والطعام الطيب هو الذي تشتهيه النفس ، ويكون مريئا لا يضر ولا يعاف ، و{ من} في قوله تعالى:{ من طيبات ما رزقناكم} هي للتبعيض باعتبار أنهم يأكلون منه ما يشتهون وما يطيقون غير مدخرين ، لأنهم يجدون ما رزقهم الله تعالى مجددا دائما ، ويذكر في بعض الكتب أنهم كانوا يأكلون رزق كل يوم ، وقد أمروا بذلك لأنه يفسد في اليوم التالي ويجيء الجديد ليحل محل الفاسد{[85]} .
ويحتمل أن تكون "من"بيانية ، ويكون المعنى كلوا طيبات ما رزقناكم ، وعلى التقديرين يتحقق وصف الطيبات ، وذكر سبحانه أنه رزق خالص من الله جاءهم من غير جهد ولا نصب ، بل هو رزق الله تعالى ساقه إليهم سبحانه وتعالى .
وإنهم بتوافر هذه النعم التي منحها الله سبحانه وتعالى لهم ، إذا هم جحدوا آياته ، وأعرضوا عن بيناته . . ما كان سبحانه وتعالى إلا منعما عليهم إذ أنجاهم من ظلم فرعون وإذلاله ، وبعد أن كانوا مستضعفين مكن الله لهم في الأرض ، ومن عليهم ، وكلما شكوا أمدهم الله تعالى بعونه وسهل لهم الحياة العزيزة الكريمة المنيعة .
{ وما ظلمونا} أي ما نقصهم سبحانه وتعالى شيئا من أسباب الحياة والقوت والسلطان ، ولكنهم جحدوا ما أنعم الله تعالى به عليهم ، فكفروه ، فكانوا هم الظالمين لأنفسهم ؛ ولذا قال تعالى:{ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 57 )} وأكد الله سبحانه وتعالى عليهم أنهم هم الظالمون لأنفسهم وذلك بالاستدراك في قوله:{ ولكن} إذ معنى الاستدراك عن ظلم الله تعالى لهم بيان أن ظلمهم لأنفسهم كان منهم لا من الله سبحانه وتعالى ، وأكده بالتعبير ب{ كانوا} وهي تدل على الاستمرار ، كما نوهنا بذلك مرارا ، وأكده سبحانه وتعالى بتقديم{ أنفسهم} لأن التقديم يدل على الاختصاص ، أي أنهم بهذا الجحود يظلمون أنفسهم ولا يتجاوز ظلمهم أنفسهم إلي ؛ فهم يظلمون أنفسهم وحدها .
وظلمهم أنفسهم ، لأن الكفر ظلم للنفس ، إذ هو ضلال في ذاته ، وأي ظلم للنفس أشد من تدليتها في الضلال ؟ ! وكفروا بأنعم الله تعالى ، وذلك ظلم كبير واقع عليهم .