عاد القول إلى بني إسرائيل بعد أن ذكر اليهود والنصارى والصابئين ، لبيان أنه لا يصح أن ييئسوا من رحمة الله تعالى بعد ما كان منهم في ماضيهم ، وما يكون منهم في حاضرهم إن آمنوا بالله حق إيمانه ، وبالآخرة إيمان إذعان ورجاء إن أطاعوا ، وخوف العقاب إن عصوا .
بين الله تعالى حال اليهود في ماضيهم ويتحمله الذين حضروا النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنهم أقروهم عليه فكان الخطاب بما حصل من أسلافهم موجها أيضا لأخلافهم .
قال تعالى:{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه} .
الطور هو الجبل الذي هو في سيناء ، فهو جبل معين ذكره الله في عدة آيات ، وهو منسوب إلى سيناء كما قال تعالى:{ والتين والزيتون ( 1 ) وطور سنين ( 2 ) وهذا البلد الأمين ( 3 )} [ التين] .
أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، والميثاق مفعال من الوثوق أي:وثقنا القول والأوامر التي أمر الله بها ونهى فيها ، وبين لهم عظمة قدرته وقوة عظمته ، وترهيبا بأمره بعد ترغيبهم فيه ، وفي هذا الرفع آية حسية تدل على رسالة موسى عليه السلام ، وأنه يتلقى أوامره من ربه ، إذ كانوا قد طلبوا رؤية ربهم فخروا صاعقين ، فهذا ربهم يخاطبهم بآية ، ورفع الجبل هذا هو ما قاله الله تعالى في سورة الأعراف:{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم . . . ( 171 )} [ الأعراف] .
ولقد ذكر سبحانه وتعالى مضمون الميثاق إجمالا ، فقال خذوا ما آتيناكم بقوة ، أي بجد وإتقان ، وتعرف ، وعناية ،{ واذكروا ما فيه} ، أي اجعلوه في ذاكرتكم دائما لا تغفلون عنه ، ولا تهملونه ، واجعلوه حاضرا دائما في قلوبكم كي تعملوا به ، ويكون في وعيكم دائما ، ولقد ذكر بعض ما في هذا الميثاق بالتفصيل فقال تعالى:{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( 83 )} .
هذا هو بعض التفصيل لهذا الميثاق المحكم الذي واثقه الله عليهم مؤكدا ذلك التوثيق برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة يظلهم ، وطالبهم بأن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى من تكليفات ذكرنا بعضها ، بقوة ، أي بيقين وجزم وتصديق وإذعان ، وأن يقرن ذلك بالعمل ، فلا تأخذونه بيد ، وتردونه باليد الأخرى ، واذكروا ما فيه ، أي اجعلوه دائما في وعيكم وذاكرتكم وقلوبكم ، ولا تنسوه .
وإن ذكر الشريعة وأحكامها هو أساس تنفيذها ، وإن المسلمين اليوم قد عراهم ما أصاب في ماضيهم ، يحفظون القرآن ولا يعونه ، ويرددون حروفه ، ولا يتدبرونه ، ولقد روى مالك في موطئه عن ابن مسعود أنه قال:( سيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي ، يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة ، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم ){[88]} . أي يتبعون أهواءهم ويتركون ما افترض عليهم .
كانت هذه الأوامر التي واثقهم الله تعالى عليها ، وأمرهم أن يذكروها دائما لأجل أن يتقوا الله تعالى أي يجعلونها وقاية لهم من ذنوبهم ، أو رجاء أن تمتلئ بتقوى الله تعالى قلوبهم ، وتغلب عليهم مخافة ربهم فلا يعصوه ، ويبادروا إلى طاعته ، ولذلك قال تعالى:{ لعلكم تتقون ( 63 )} أي ترجون التقوى والخوف منه .