قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) أخذ الله على بني إسرائيل الميثاق وهو العهد الذي واثقهم به أن يؤمنوا به وبرسله ،وأن يتبعوا التوراة وما فيها من هداية ونور إلا أنهم نقضوا كل ما طوقوا به أنفسهم من العهود والمواثيق .وبعد ذلك خوفهم الله تخويفا أحسوه عيانا ،إذ رفع فوقهم الطور ليهتدوا ويتبعوا ما أنزل إليهم ،واختلف أهل التأويل في حقيقة الطور فقد قيل: إن المقصود به طور سيناء وهو الطور المقدس ،الذي كلم الله نبيه موسى عليه وأنزل عليه التوراة فيه ،وقيل: إنه جبل من الجبال قد رفعه الله فوق اليهود ليرعبهم وليحملهم على اتباع ما أنزل إليهم ،وقيل غير ذلك .
قوله تعالى: (خذوا ما آتيناكم بقوة) أراد الله جلت قدرته أن يزلزل بني إسرائيل لفرط عصيانهم وتمردهم واختلافهم على أنبيائهم ولشدة مخالفتهم عن أمر الله ،فرفع الجبل فوق رؤوسهم حتى أيقنوا أنه ساقط عليهم فمدمرهم تدميرا ،وذلك كي تلين نفوسهم للحق وتستقيم طبائعهم بعد اعوجاج وطول أرجحة وميوعة ،فيقبلوا على الله باتباع دينه والعمل بما جاءت به التوراة .يبين ذلك ويوضحه ما قاله سبحانه في الآية الأخرى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) والنتق هو الرفع فقد رفع الله الجبل فوق رؤوسهم ،ليخافوا ثم يتبعوا كلام الله فقال وهم في هذه الحالة من الخوف الشديد بعد أن نتق فوقهم الجبل (خذوا ما آتيناكم بقوة)أي ألزموا أنفسكم بالتوراة التي أعطيناكم إياها لتكون لكم هاديا ومنيرا ،وخذوها بقوة أي بجد واهتمام وعزيمة لا بضعف وهزل ورخاوة كما هي حالكم من الخور والميوعة ،وفي قوله: (بقوة) ما يكشف عن طبيعة بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام ،وهي طبيعة تقوم على الرخاوة واللامبالاة وعدم الجد بحيث لا يناسبها الأسلوب الين الكريم أو الخطاب المؤثر الحاني وإنما يناسبها الحزم والشدة ،ويؤثر فيها الترويع والعقاب حق تأثير ،ومثل هذه المعاني يكشف عنها قوله سبحانه: (بقوة) ويكشف عنها كذلك نتق الجبل فوق رؤوسهم تهديدا لهم وترغيبا حتى انصاعوا للأمر فخروا ساجدين ،وبغير هذا الأسلوب القاسي ،المحسوس لا يصلح لمثل هؤلاء القوم شأن ،فلا الحجة الدامغة ولا البرهان الساطع ،ولا الخطاب الكريم الذي يلج في النفس فيؤثر فيها تأثيرا ،ولا الأساليب الأخلاقية العالية التي تستنهض فطرة الإنسان ،ولا غير ذلك من أسباب المنطق وأثارة الوجدان يمكن أن يحمل مثل هؤلاء على الالتزام بشرع الله والسير على صراطه المستقيم .
ولعل مثل هؤلاء القوم مجرد نموذج منن البشر الذي لا يثنيه عن الباطل غير القوة ،فلا أحسب أن هؤلاء القوم وحدهم لا يستجيبون إلا للقوة ولكن أصنافا كثيرة من البشر في مختلف البقاع والأزمنة وفي مختلف الأجناس والملل لا يرعون إلا إذا أحاطت بهم الشدة وأخذوا بأسلوب العصا الغليظة ،ويعزز هذه الحقيقة الحديث الشريف الذي يتسم بالعمومية والشمول إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
وقوله: (واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) أمرهم سبحانه أن يأخذوا التوراة ،ليتدبروا ما فيها وليعوها وعيا تاما وافيا ،فعسى أن يكون في ذلك ما يقيهم العذاب ويدرأ عنهم الشدائد في الدنيا والآخرة .