بنو إسرائيل وحرفية الطاعة:
في هذه الآيات ،عودة إلى بني إسرائيل ليذكّرهم اللّه بالوضع القلق الذي كانوا يعيشونه تجاه التزامات العقيدة الإيمانية والعملية ،فقد أخذ اللّه ميثاقهم بعد إنزال التوراة ،وطلب منهم أن يتحمّلوا مسؤولية الوحي الذي أنزل عليهم ،وأن يأخذوه بقوّة في الالتزام به وفي الدعوة إليه ،وأن يتذكروا ما فيه فلا ينسوه مهما كانت الأوضاع ،لأنَّ ذلك هو السبيل للحصول على ملكة التقوى التي تتيح لهم الانضباط أمام اللّه في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه ،ولكنَّهم أعرضوا بعد ذلك ،فلم يلتزموا بالميثاق .وربَّما كان هذا الخطّ المنحرف معرّضاً للامتداد في حياتهم ،فيؤدي بهم إلى الخسران في الدنيا والآخرة ،ولكنَّ فضل اللّه عليهم ورحمته بهم ،أنقذاهم في آخر لحظة ،فرجعوا وتابوا إلى اللّه .ثُمَّ يذكّرهم من جديد بالقوم الذين اعتَدَوْا منهم في قصة السبت التي ابتلاهم اللّه بها ،كأسلوب من أساليب اختبار طاعتهم ،فحاولوا أن يتلاعبوا بذلك بأن يحبسوا السمك يوم السبت ليجتمع في محل واحد ،فلا يخرج منه ليصطادوه في يوم آخر ،ليحقّقوا بذلك حرفية الطاعة مع نتائج المعصية ،فكان من نتيجة ذلك أنَّ اللّه مسخهم قردة صاغرين ،ليكون ذلك عقوبة وعبرة لبقية المجتمعات المعاصرة لهم التي تنظر إليهم فترتدع عن السير في ما ساروا فيه ،ولمن خلفها من الأمم التي جاءت من بعدهم ...وموعظة للمتقين الذين يأخذون الدرس والعبرة من ذلك كلّه .وقد جاء ذلك في الحديث عن الإمام محمَّد الباقر ( ع ) وولده الإمام جعفر الصادق ( ع ) أنهما قالا:"[لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا]أي لما معها ينظر إليها من القرى ، [وَمَا خَلْفَهَا]نحن ،ولنا فيها موعظة[ 1] .
وروى العياشي في تفسيره أنه سُئل الإمام جعفر الصادق ( ع ) عن قول اللّه عزَّ وجلّ:] خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقوّة[ أبِقوّة الأبدان أم بقوّة القلوب ؟فقال: بهما جميعا .أمّا طبيعة هذه القوّة فهي العزيمة والجد واليقين الذي لا شك فيه .أمّا الطُّور ،فهو الجبل الذي رفعه اللّه فوقهم لإرهابهم بعظمة القدرة ،كما ورد في الميزان .
[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ][ في توحيد اللّه والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين ،والقول الصالح ،وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ،واجتناب سفك الدماء ،والانفتاح على الأنبياء جميعاً ،واتّباعهم ،والالتزام بكتبهم وبرسالاتهم ،والابتعاد عن تشريد النّاس من ديارهم والعمل في سبيل اللّه ...وغير ذلك من الأمور التي جاءت بها التوراة في خطّ العقيدة والشريعة ،وانطلقت بها كتب اللّه في الماضي والحاضر والمستقبل .
[وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ] أي الجبل الذي انتصب فوقكم ،حتى خُيّل إليكم أنه سوف يقع فوق رؤوسكم تخويفاً وإرهاباً ،لتبتعدوا عن التمرّد الذي تحرّكتم فيه في أجواء العناد ،بعد قيام الحجّة عليكم ،ما جعل الموقف بحاجة إلى معجزة خارقة تقف بكم في خطّ الاستقامة لتؤمنوا بالتوراة وتلتزموا بها ،ولا تنقضوا الميثاق بعد أن كنتم سائرين في هذا الاتجاه .
وفي ضوء ذلك ،نعرف أنَّ المسألة لم تكن إكراهاً على العقيدةكما أثاره البعضلتكون قضية الإيمان بعيدة عن دائرة الحرية الفكرية والاختيار الإرادي مما أكده القرآن الكريم في قوله تعالى:[لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ][ البقرة:256] وفي قوله تعالى:[أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاس حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ][ يونس:99] .
والوجه في ذلك ،أنَّ العقيدة كانت ثابتةً بأدلتها وبراهينها التي قدّمها لهم موسى ( ع ) منذ بداية صراعه مع فرعون إلى نهاية تلك المرحلة وبداية مرحلة الدخول في تفاصيل الشريعة والميثاق الذي يمثّل الجانب العملي للإيمان ،وكانت الحاجة ماسّة إلى صدمةٍ قوية تدفعهم بعيداً عن حالة التمرّد التي كانت تمثّل التحدّي العدواني ،والسلوك الطفولي في مواجهة موسى ( ع ) ،ليشعروا بأنَّ هناك خطراً يتهدّدهم بالمستوى الذي لا يملكون فيه مواجهته ،وهذا هو إيحاء هذه الفقرة من هذه الآية ومن الآية الواردة في سورة الأعراف:] وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ[ [ الأعراف:171] .[ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقوّة] من خلال مسؤوليتكم الرسالية التي حمّلكم اللّه أمانتها التي لا بُدَّ من أن تؤدّوها للنّاس بقوّة في دعوتكم إياهم للإيمان بها والسير عليها ،وللجيل الذي يأتي من بعدكم في تقوية الموقع الفكري والعملي الذي يتحوّل إلى قاعدة فكرية وعملية يرتكز عليها المستقبل الإنساني في حركته في الحياة .وهذا يفرض عليكم تحريك قوتكم الذاتية ،وتنمية عناصرها ،وتقويتها ،وتطويرها في هذا الاتجاه ،ولا سيما أنَّ الرسالة لا بُدَّ من أن تدخل ساحة الصراع مع التيارات الأخرى المضادة ؛الأمر الذي قد يحتاج إلى المزيد من الطاقات المتحرّكة في ساحة المواجهة . [ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ]من المفاهيم العقيدية والأخلاقية والشرائع العملية ،واحفظوه ولا تنسوه ،وتدبروا معانيه ،ليكون ذلك كلّه حضوراً لكم في وعيكم وفي الواقع[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ،لأنه يرسم لكم الخطّ المستقيم الذي يفتح لكم أبواب التقوى في الالتزام التوحيدي الذي يتحرّك بكم في خطّ الاستقامة في جميع المجالات .