ثم واصل القرآن حديثه مع بني إسرائيل ، فذكرهم بنعمة شمول الله إياهم برحمته وفضله رغم توليهم عن طاعته ونقضهم لميثاقه فقال تعالى:
( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ . . . )
قال ابن جرير:"وكان سبب أخذ الميثاق عليهم فيما ذكره ابن زيد ، ما حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال:أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد:لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لقومه بني إسرائيل:إن هذه الألواح فيها كتاب الله ، وأمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه . فقالوا:وما يأخذ بقولك أنت ، لا والله حتى نرى الله جهرة ، حتى يطلع الله علينا فيقول:"هذا كتابي فخذه "فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى:قال فجاءت غضبة من الله ، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا جميعاً . قال:ثم أحياهم الله بعد موتهم فقال لهم موسى:خذوا كتاب الله . فقالوا:لا . قال:أي شيء أصابكم؟ قالوا:متنا جميعاً ، ثم حيينا قال:خذوا كتاب الله . قالوا:لا . فبعث الله ملائكة فتنقت الجبل فوقهم ، فقيل لهم:أتعرفون هذا؟ قالوا نعم ، هذا الطور ، قال:خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم ، قال:فأخذوا بالميثاق . قال:ولو كانوا أخذوه أول مرة لأخذوه بغير ميثاق ".
ومعنى الآيتين الكريمتين:واذكروا - يا بني إسرائيل - لتعتبروا وتنتفعوا وقت أن أخذنا عليكم جميعاً العهد بأن تعبدوا الله وحده ، وتتبعوا ما جاءكم به رسله ، وتعملوا بما في التوراة ، واذكروا كذلك وقت أن رفعنا فوق أسلافكم الطور تهديداً لهم بالعقوبة إذا لم يطيعوا أوامر الله ، وليشهدوا آية من آيات الله الدالة على قدرته ، وقلنا لكم جميعاً . خذوا ما آتيناكم في كتابكم من تكاليف بجد وعزم واجتهاد ، واذكروا ما فيه وتدبروه وسيروا على هدية لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، ولكن الذي حصل منكم جميعاً أنكم أعرضتم عن العمل بما أخذ عليكم ، فتركتم تعاليم كتابكم وآذيتم أنبياءكم ، ولوا أن الله - تعالى - رأف بكم ، ووفقكم للتوبة ، وعفا عن زلاتكم ، لكنتم من الهالكين في دنياكم وآخرتكم .
وقوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ) تذكير لبني إسرائيل بنعمة من أمثال النعم الواردة في الآيات السابقة ، لأن أخذ الميثاق عليهم ليعملوا بما في التوراة من الأمور العائد عليهم نفعها .
وقوله تعالى:( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور ) أي:أعليناه ، وجعلناه فوق رءوسكم كالمظلة .
والطور:اسم للجبل الذي ناجى عليه موسى ربه - تعالى - كان بنو إسرائيل بأسفله فرفع فوق رءوسهم .
وقوله تعالى:( خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ ) مقول لقول محذوف ، دل عليه المعنى ، والتقدير:وقلنا لهم:خذوا ما آتيناكم بقوة ، أي:تمسكوا به ، واعملوا بما فيه يجد ونشاط ، وتقبلوه واجتنبوا نواهيه ، واعملوا ما جاء به بدون تردد .
والمراد "بما آتيناكم "التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى لتكون هدى ونوراً لهم . وقوله تعالى:( واذكروا مَا فِيهِ ) أي احفظوه وتدبروه وتدارسوه ، وامتثلوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، واعملوا بكل ما جاء فيه بلا تعطيل لشيء منه .
قال الإِمام القرطبي:"وهذا هو المقصود من الكتب ، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان - فحسب - ، فقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن من الشر الناس رجلا فاسقاً يقرأ القرآن ، لا يرعوى إلى شيء منه ".
و "لعل "في قوله تعالى:( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) إما للتعليل ، فيكون المعنى:خذوا الكتاب بجد وعزم ، واعملوا بما فيه بصدق وطاعة ، لتتقوا الهلاك في عاجلتكم وآجلتكم ، وإما للترجي، وهو منصرف إلى المخاطبين ، فيكون المعنى:خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ولا تنسوه ، وأنتم ترجون أن تكونوا من طائفة المتقين .