وقوله: (ثم توليتم من بعد ذلك) ما أعجب هؤلاء الناس ،وما أعجب طبائعهم فكم مرة يؤمرون ويعصون ثم يحيق بهم العذاب يهددهم تهديدا حتى إذا انكشف عنهم العذاب عادوا الى الجحود والعصيان ،وعادوا ديدنهم في الفساد والتمرد وذلك في غاية من الميوعة والهزل والتأرجح ،وهذه مرة أخرى من المرات التي يتحدث فيها القرآن عن حمل بني إسرائيل على الطاعة بالقوة والتهديد ،ثم إذا زال عنهم ما يرعبهم ويخوفهم رجعوا إلى المقصود (ثم توليتم من بعد ذلك) .
وفوق ذلك كله فإن الله جلت قدرته رحيم بهؤلاء القوم فقد بسط لهم من أهداب الرحمة والمغفرة ما يثير في النفس العجب ،ويرسم للذهن أجلى صورة عن مدى الرحمة التي تتجلى في جلال الله سبحانه ،لا جرم أن رحمة الله تدنو دونها سائر الرحمات ،فقال سبحانه: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) يمن الله على بني إسرائيل بفضله عليهم ورحمته ،وأنه أولا هذان: الفضل والرحمة لكانوا من الخاسرين ،والفضل هو الإحسان ،والرحمة معروفة فهو سبحانه الرحيم الحنان المنان وهو أرحم الراحمين ،وهو سبحانه لا يدانيه في هذه الخصيصة أي كائن حتى إنه اسمه الرحمن وهو اسم لا يليق أن يكون لأحد سوى الله ،فهو وحده الحقيق بذلك .
وقوله: (الخاسرين) من الخسر والخسران والخسار والخسارة والتخسير .وهو ضد الربح وهو يعني الضلال والهلاك ،{[72]} فإنه لولا فضل الله على هؤلاء القوم ورحمته بهم لأصابهم الهلاك على الفور ،ولهبطوا في الضلال دون إنظار أو وناء ،ولكن الله تعالى كان في كل مرة يعصونه فيها يمن عليهم بالفضل والرحمة فيعفو عنهم ويبسط لهم جناح العفو والغفران ليعاودوا السير في ظل الله والالتزام بدينه من جديد ،لكنهم أخيرا أبوا إلا التمرد المكرور الذي لا ينقطع حتى دمر الله عليهم تدميرا فكتب عليهم الذلة والمسكنة ،ومزقهم في الأرض شر ممزق ،وقطعهم في الأرض أشتات أمما .