قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) ذلك خطاب من الله لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم بقصة العدوان والتحدي اللذين مارسهما آباؤهم من بني إسرائيل يوم تحيلوا على دينهم بطريقة مفضوحة تقوم على الكذب والخديعة فاصطادوا السمك والحيتان يوم السبت ،وقوله سبحانه: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم يوم السبت) ولم يقل عرفتم ،فإن المعرفة متعلقة بذات الإنسان وعينه لكن العلم متعلق بأوصافه وأحواله .فاليهود الذين عاصروا النبي عليه السلام يعلمون عن حال آبائهم وأجدادهم من بني إسرائيل الذين اعتدوا في السبت .
والمعلوم أن السبت لدى اليهود هو يوم عبادة ينقطعون فيه عن جميع الأعمال والممارسات سوى العبادة وما لها من مقتضيات ،فأحست الأسماك والحيتان بغريزتها أن هذا اليوم بات يوم أمن وسلام لها ،فلا يصيبها فيه أذى أو اعتداء ،فكانت بذلك تفيض صوب الشاطىء بأعداد كثيفة كاثرة مما ألهب في نفوس بني إسرائيل غريزة الطمع وجمع المال فجعلوا يصنعون الحفر والحبائل والبرك لتلجأ إليها الأسماك يوم السبت دون أن تتمكن بعد ذلك من الخروج أو التخلص فتظل حبيسة محشورة على هذه الحال إلى أن ينقضي السبت ،ثم تأتي جماعات يهود فتأخذ ما وقع من هذه الأسماك والحيتان متذرعين بأنهمن أخذوها الأحد ،وتلك طريقة المعتدين الخونة الذين ألهبهم الطمع واستفز أعصابهم ونفوسهم لتجهد لاهثة وراء المال والحطام الزائل ،وقد كان ذلك من خلال أسباب خسيسة في الاحتيال والغش والخداع الأثيم .
وقوله: (السبت) وهو مفرد مصدر جمعه أسبت وسبوت ،ومعناه: الراحة والقطع ،والانقطاع عن المعيشة والاكتساب ،{[73]} ليتسنى لهم أن يعبدوا الله غير منشغلين بما يعيق .
وقوله: (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) كان ذلك جزاء لهم على فعلتهم الماكرة بالتحايل على أوامر الله بأسلوب رخيص ينم على سوء في النية وفساد في الطبع والسجية ،فقد أمر الله بقدرته المطلقة التي تتحقق فيما بين الكاف والنون ( كن ) أن يتحول هذا الفريق الفاسد المتجاوز المحتال الى قردة ،لكن هل انقلبوا إلى قردة من حيث الحكم والمعنى أو من حيث الحقيقة والصورة فوق الحكم والمعنى .
ثمة قولان في هذه المسألة أحدهما: أن الذين اعتدوا في السبت قد نسخ الله نفوسهم وطبائعهم فحولها من هذه الناحية إلى ما يشبه القردة من حيث الطبائع والنفوس من غير أن يؤثر ذلك على ظاهر الخلقة في شكلها الآدمي .
والقول الثاني: أن الله قد مسخهم إلى قردة من حيث الحقيقة والصورة والمعنى فاستحالوا بذلك إلى قردة حقيقيين لا يفرقهم عنهم أي فارق ،لا في الصورة ولا في المعنى وذلك ما ذهب إليه أكثر العلماء وهو الذي نرجحه أخذا بظاهر الآية الحقيقي ،إذ لا تعويل على المجاز ما دامت الحقيقة للتعبير القرآني بارزة ومكشوفة والله تعالى أعلم .
على أن الأخذ بالقول الثاني يغني عن الأول أو هو يشمله فظاهر الآية يدل على تحويل هؤلاء المعتدين إلى قردة ،وذلك من حيث الحقيقة والصورة ،وكذلك من حيث المعنى وهو قد بات مندرجا في تركيبة القرود ،ذلك أن من تحصيل الحاصل أن نقول أن القرد ينطوي على خلقة شكلية ومعنوية واضحة ومفهومة ،وبعبارة أخرى فإن من المستحيل أن نتصور قردا في طبع يختلف عن طبائع القرود ،فما دام هؤلاء قد تحولوا إلى قردة ،فإن عملية التحويل باتت كاملة تماما ليكونوا قردة حقيقيين ،وذلك من حيث الصورة والمعنى كلاهما .
وقوله: (خاسئين (أي مبعدين منزجرين ،من الفعل خسأ وانخسأ أي بعد وطرد وانزجر والخاسىء هو القميىء الصاغر المطرود الذي لا يترك فيدنو من طارده .{[74]}
ومثل ذلك قوله تعالى: (قال اخشوا فيها ولا تكلمون (يقال ذلك لأهل النار الذين يتصايحون راجين فيقال لهم: (اخشوا (أي امكثوا مبعدين صاغرين مطرودين .