اعتداؤهم في السبت
لقد كان بنو إسرائيل قوما غلبت عليهم شقوتهم ، فكان رب العالمين يشرع لهم من الشرائع ما يربون به نفوسهم ، ويعودهم ضبط النفس ، وفطمها ليتربوا على البعد عن الشهوات ويقتصروا على ما فيه مصلحتهم ويقيموا حياتهم مستقيمة ؛ ولذلك حرم عليهم بعض المباحات قرعا لنفوسهم وفطما لها ، وقد قال تعالى:{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ( 146 )} [ الأنعام] .
من ذلك كان تحريم الصيد عليهم يوم السبت قمعا للشهوات ، وقد يكون فيه تنظيم اقتصادي وراحة لهم ، وأن يعكفوا على العبادة ، ويروضوا أنفسهم على حياة روحية تتطهر فيها نفوسهم وتتجرد من سطوة المادة وشهواتها .
حرم الله تعالى عليهم الصيد في يوم السبت ، ولكنهم مرقوا عن أمر الله تعالى ، واستباحوا السبت ، أو بعبارة أدق استباحه بعضهم ، وسكت عن نهيهم سائرهم ، وإن كان الذين امتنعوا خيرهم ، وقالوا في إخوانهم:{ لم تعظون قوما الله مهلكهم . . . ( 164 )} [ الأعراف] ولأن أصواتهم لم تصل إلى درجة المنع – نسب الاعتداء إليهم جميعا .
يقول الله تعالى:{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} أكد سبحانه وتعالى علمهم بهذا الاعتداء باللام التي تكون للتأكيد ، وبقد التي تكون للتحقيق دائما سواء أدخلت على المضارع أم دخلت على الماضي ، كما هو في القرآن الكريم .
وقالوا:إنه سبحانه وتعالى قال:علمتم ، ولم يقل عرفتم ؛ لأن المعرفة تمييز للشخص في ظاهر أمره ، فتقول:عرفت فلانا إذا لقيته ولم تخبر أحواله ، وإذا قلت:علمته ؛ فمعنى ذلك أنك علمت أحوال ظاهره وباطنه ، فتقول:علمت زيدا إذا علمت أحواله ظهورها ، وخفاياها .
أي أنكم علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ، في شره نفوسهم ، وقرمهم إلى الصيد واندفاعهم نحو المخالفة لأمر ربهم مدفوعين بشهوات جامحة يتحايلون فيها تحايل الولهى لتحقيقها ، حاسبين أن ذلك يخفى على الله تعالى ، ولكن سبحانه وتعالى يزيد في اختبار نفوسهم ، فيرسل حيتان السمك إليهم شارعة يوم السبت ، ثم لا تأتيهم بعد ذلك ، ولذلك قال تعالى مبينا الاختبار في آية أخرى ، فقال تعالى:{ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ( 163 )} [ الأعراف] .
وهذه القرية يروي ابن كثير في تفسيره أنها كانت بين الأبلة والطور ، ولعلها المصر الذي هبطوا إليه في قول موسى:{ اهبطوا مصرا} . ويروي ابن كثير أنه اشتهى بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر . فإذا كان يوم السبت فتح السد فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفرة ، فيريد الحوت أن يخرج ، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيها فإذا كان يوم الأحد جاءه ، فأخذه ، فشواه ، وقد قلده جاره ، وشاع هذا وفشى فيهم . . فقال لهم علماؤهم:إنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل ، فأنتم اصطدتموه يوم السبت .
وما أشبه هؤلاء بإخوانهم ينتسبون إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم حتى إنهم يستبيحون الربا بحيل محرمة ، والله عليم بهم وبأحوالهم ، ولهم ما أعده الله لبني إسرائيل وهم أصل الداء في هذا وفي غيره{[89]} .
وقد قال تعالى ما يفيد أنهم إذا لم تتهذب نفوسهم ولم تترب بالضبط قلوبهم فإنهم كالقردة والخنازير ، فقال تعالى:{ فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} الفاء كأخواتها تفصح عن شرط مقدر ، أي إذا كانوا اعتدوا ذلك الاعتداء وشرهوا ذلك الشره ، قلنا لهم بلسان التكوين:{ كونوا قردة خاسئين ( 65 )} وروي عن مجاهد أنه قال أنه مسخت قلوبهم فصارت قلوب القردة تنزو لشهواتها ولا تتعقل ولا تتدبر في عاقبة أمرها فهبطوا إلى هذه المنزلة الدون وقال:إنه مثل ضربه الله تعالى مبينا حالهم ، كالمثل في قوله تعالى:{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا . . . ( 5 )} [ الجمعة] فصارت قلوبهم قلوب قردة .
وإنه يزكي ذلك المعنى أنه شبه حالهم في آية أخرى بالقردة والخنازير لا بالقردة وحدها ، وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة:{ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( 60 )} [ المائدة] .
ومعنى خاسئين:أي مبعدين يقال خسئ أي بعد وخسأته أبعدته ، والمعنى بعيدون عن مواطن العزة ورضا الله تعالى ، لأن الشهوة والعزة نقيضان لا يجتمعان فالشهوات مطية الذلة والهوان ، ولا يهون إنسان إلا إذا هانت نفسه ، وصارت أمة للشهوات .