ولكن كان هذا الميثاق الذي وثقه الله تعالى بأمر حسي ، لأنهم لا يعتبرون إلا بالمحسوسات ، مؤديا إلى أن يتقوه سبحانه بل إنهم تلقوا أمرا موثقا ذلك التوثيق مؤكدا ذلك التوكيد ، ولكنهم كعادتهم في استهانتهم بأمر الله ونهيه نسوه وتولوا عنه معرضين ؛ ولذلك قال تعالى:{ ثم توليتم من بعد ذلك} التولي هو الإعراض ، وأصله الإدبار وأن يجعل جسمه موليا وجه من يطالبه بقول أو عمل ، والمعنى أنهم أعرضوا إعراضا شديدا واضحا ، كمن يعرض عن القول بتولية جسمه ، واتجاهه في اتجاه غير اتجاه من يواجهه بالقول ، معنى ذلك أنهم جعلوا الله وميثاقه وراءهم ، ودبر آذانهم .
والتعبير هنا ب "ثم"التي تدل على التراخي للإشارة إلى البعد عن الميثاق وموجبه ، وعملهم المناقض لأمر الله تعالى ، والإشارة فيها بالبعيد في قوله تعالى:{ ثم توليتم من بعد ذلك} لبيان بعد عملهم عن الميثاق الذي أمرهم سبحانه وتعالى أن يأخذوه بقوة ، وأن يذكروه دائما وأن يكون في وعيهم في كل أحوالهم .
وإن ذلك التولي كان بالإعراض عما جاء في التوراة أو الألواح العشرة التي أخذوها بقوة ، وطولبوا بذكرها ليمكنهم أن يعملوا بها ، وقد قال القفال الشاسي بعض ما تولوا به عن التوراة فقال:وإنهم بعد قبول التوراة ، ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا كلمها عن مواضعه ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، بعد أن كفروا بهم وعصوا أمرهم ومنه ما عمله أوائلهم ، ومنه ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم لأعاجيب البلاء يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك ، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، ثم نقل متأخروهم ما لا خفاء فيه حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله .
هذه كلمات صورت توليهم عن الحق ، واستدباره في عامة أمورهم ، وكان منهم في عهد موسى وهو يكلمهم عن الله ، ويتولى تربيتهم وبث روح الإيمان في قلوبهم التي قست وكانوا صورة واضحة للناس الذين تغلب عليهم شهوتهم .
ولقد قال تعالى:{ فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر أي إذا كان ذلك كله منكم بعد ذلك التوثيق لأمر الله تعالى ونهيه ، وأمركم أن تأخذوه فإنه كان ينزل بكم الخسران المبين والعذاب المهين ، ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته . . و"لولا"هنا هي التي يقال فيها إنها حرف امتناع وجود أي حرف امتناع جواب لوجود الشرط . والمعنى أنكم كنتم تستحقون بذلك عذاب الهون ، ولولا فضل الله أي إرادته أن يزيد خيره عليكم تمكينا لكم من فعل الخير لإمهالكم لكنتم من الخاسرين ، ولقد قال الراغب في تفسيره:الخاسر المطلق هو الذي خسر أعظم ما يقتنى ، وهو نعيم الأبد .
فالخاسرون:هم الذين خسروا أنفسهم ، بأن أوقعوها في الهلكة والعذاب .
وإن النص القرآني يفيد أن الله بفضله ورحمته أعطاهم مهلة ليتداركوا أمرهم ، ولم يكتبهم من الخاسرين .