وبعد أن ذكر لهم تلك الآية ، وما اتصل بها من الهداية ، ذكرهم بما كان منهم من التولي عن الطاعة والإعراض عن القبول ، ثم امتنّ عليهم بما عاملهم به من الفضل والرحمة ، والصفح عما يستحقونه منا المؤاخذة والعقوبة ، فقال:{ ثم توليتم من بعد ذلك} أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة من بعد أخذ الميثاق ومشاهدة الآيات التي تؤثر في القلوب ، وتستكين له النفوس{ فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} أي إنكم بتوليكم استحققتم العقاب ، ولكن حال دون نزوله بكم فضل الله عليكم ورحمته بكم ، ولولا ذلك لخسرتم سعادة الدنيا وهو التمكن في الأرض المقدسة التي تفيض لبنا وعسلا ، ثم خسرتم سعادة الآخرة وهي خير ثوابا وخير أملا .فمن فضله وإحسانه أن وفقكم للعمل بالميثاق بعد ذلك .
شايع الأستاذ الإمام المفسرين على أن رفع الطور كان آية كونية ، أي أنه انتزع من الأرض وصار معلقا فوقهم في الهواء ، وهذا هو المتبادر من الآية بمعونة السياق ، وإن لم تكن ألفاظها نصا فيه ، إذ الرفع والارتفاع هو جعل الشيء – أو أن يكون الشيء – رفيعا عاليا كما قال تعالى{ فيها سرر مرفوعة} وقال{ وفرش مرفوعة} فكل من السرر والفرش تكون مرفوعة وهي على الأرض .وقوله تعالى في آية الأعراف{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} ليس نصا أيضا في كون الجبل رفع في الهواء .فأصل النتق في اللغة الزعزعة والزلزلة كما سبق .قال في حقيقة الأساس:نتق البعير الرحل زعزعه ، ونتقت الزبد أخرجته بالمخض ، ونتق الله الجبل رفعه مزعزعا فوقهم ا ه .والظلة كل ما أظلك سواء كان فوق رأسك أوفى جانبك وهو مرتفع له ظل ، فيحتمل أنهم لما كانوا بجانب الطور رأوه منتوقا ، أي مرتفعا مزعزعا فظنوا أن سيقع بهم ، وينقض عليهم ، ويجوز أن ذلك كان في أثر زلزال تزعزع له الجبل ، وقد سبق القول ببطلان كون ذلك إرهابا للإكراه على قبول التوراة ، وإذ صح هذا التأويل ، لا يكون منكرا ارتفاع الجبل في الهواء مكذبا للقرآن .