إن الله تعالى جعل تلك القرية التي كانت مكان الفسق عن أمر الله تعالى نكالا وموعظة فقال تعالى:{ فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها} .
نكال المنع والزجر ، والنكل القيد ، والأنكال القيود ، لأنها تمنع .
والفاء للإفصاح ، كما ذكرنا في غير ذلك الموضع والضمير في قوله تعالى:{ فجعلناها نكالا} ، يعود إلى العقوبة أي جعلنا هذه العقوبة التي كان من مقتضاها أن يفقدوا معاني السمو الإنساني ، والارتفاع عن حضيض الحيوانية الأوهد ، وقيل:إنها تعود على القرية التي كان فيها ذلك الاعتداء لأنها حاضرة في الذهن ومشار إليها في ذكر الذين اعتدوا منكم في السبت ، أي والقرية التي كان فيها الاعتداء ، فهي إن طويت في البيان ملاحظة في المعنى ، وهكذا يفسر القرآن بعضه بعضا ، وما يطوى في مكان يصرح به في مكان آخر ، تعالت كلمات الله تعالى .
وقد أنزل سبحانه وتعالى بسبب هذه الشهوات الجامحة الخارجة عن مقتضى الطبع الإنساني عذابا شديدا من الذل بعد العزة ، ومن الضيق بعد السعة ، ومن الشدة بعد الرخاء ما جعلها عبرة لمن بين يدي الحاضرين ، ومن يجيء بعدها من الناس ، وعبر سبحانه وتعالى عن الحاضرين بقوله تعالى:{ لما بين يديها} كناية عن وجودها معهم وأنها على مقربة منهم ، قرب ما بين اليدين من الصدر ، والذين تحوطهم ويحوطونها .
وإن ذلك العقاب يكون له صدى يتردد في الأجيال بعدهم جيلا بعد جيل ، ومثل هذه القرية كمثل قرية عصت أمر الله تعالى وكفرت بأنعمه سبحانه ، وقال فيها تعالت كلماته:{ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( 112 ) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ( 113 )} [ النحل] .
فما أشبه حال بني إسرائيل في أنعم الله تعالى عليهم بحال تلك القرية ، وكأنها مثل بين لهم ، والموعظة وزنها تفعلة بمعنى المصدر الميمي من الوعظ ، وهو التخويف والزجر بما وقع لغيره ، ويكون للتذكير بالخير مما يرق له القلب ، كما يكون للتذكير والإنذار بما وقع للعصاة .
وخص سبحانه وتعالى تأثير الموعظة بالمتقين وإن كانت هي للعالمين لتفردهم بالتأثر بها ، والإهتداء بهديها وهم الذين تنفعل نفوسهم للخير لأنهم ليسوا مغرورين بعزة الشيطان ولكن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية ، فمن دأبهم الحذر من الشر ، وإذا ذكروا ذكروا ، والله هو الهادي إلى الرشاد .