وقوله تعالى:( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ) قال بعضهم:الضمير في ) فجعلناها ) عائد على القردة ، وقيل:على الحيتان ، وقيل:على العقوبة ، وقيل:على القرية ؛ حكاها ابن جرير .
والصحيح أن الضمير عائد على القرية ، أي:فجعل الله هذه القرية ، والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم ) نكالا ) أي:عاقبناهم عقوبة ، فجعلناها . عبرة ، كما قال الله عن فرعون:( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) [ النازعات:25] .
وقوله:( لما بين يديها وما خلفها ) أي من القرى . قال ابن عباس:يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى . كما قال تعالى:( ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ) [ الأحقاف:27] ، ومنه قوله تعالى:( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) الآية [ الرعد:41] ، على أحد الأقوال ، فالمراد:لما بين يديها وما خلفها في المكان ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس:لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى . وكذا قال سعيد بن جبير ( لما بين يديها وما خلفها ) [ قال] من بحضرتها من الناس يومئذ .
وروي عن إسماعيل بن أبي خالد ، وقتادة ، وعطية العوفي:( فجعلناها نكالا لما بين يديها ) [ وما خلفها] ) قال:ما [ كان] قبلها من الماضين في شأن السبت .
وقال أبو العالية والربيع وعطية:( وما خلفها ) لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم .
وكان هؤلاء يقولون:المراد بما بين يديها وما خلفها في الزمان .
وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن يكون أهل تلك القرية عبرة لهم ، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم ؟ هذا لعل أحدا من الناس لا يقوله بعد تصوره ، فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان ، وهو ما حولها من القرى ؛ كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ، والله أعلم .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية:( فجعلناها نكالا لما بين يديها ) أي:عقوبة لما خلا من ذنوبهم .
وقال ابن أبي حاتم وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .
وحكى القرطبي ، عن ابن عباس والسدي ، والفراء ، وابن عطية ( لما بين يديها ) بين ذنوب القوم ( وما خلفها ) لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب ، وحكى فخر الدين ثلاثة أقوال:
أحدها:أن المراد بما بين يديها وما خلفها:من تقدمها من القرى ، بما عندهم من العلم بخبرها ، بالكتب المتقدمة ومن بعدها .
الثاني:المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم .
والثالث:أنه جعلها تعالى عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده ، قال:وهذا قول الحسن . قلت:وأرجح الأقوال أن المراد بما بين يديها وما خلفها:من بحضرتها من القرى التي يبلغهم خبرها ، وما حل بها ، كما قال:( ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ) [ الأحقاف:27] وقال تعالى:( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم ) [ الرعد:31] ، وقال ( أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) [ الأنبياء:44] ، فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم ، وعبرة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم ، ولهذا قال:( وموعظة للمتقين )
وقوله تعالى:( وموعظة للمتقين ) قال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس:( وموعظة للمتقين ) الذين من بعدهم إلى يوم القيامة .
وقال الحسن وقتادة:( وموعظة للمتقين ) بعدهم ، فيتقون نقمة الله ، ويحذرونها .
وقال السدي ، وعطية العوفي:( وموعظة للمتقين ) قال:أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قلت:المراد بالموعظة هاهنا الزاجر ، أي:جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله ، وما تحيلوا به من الحيل ، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم ، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة:حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم ، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو [ عن أبي سلمة] عن أبي هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود ، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل .
وهذا إسناد جيد ، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح . والله أعلم .