بقرة بني إسرائيل
كان بنو إسرائيل في مصر ، وكانوا أذلوهم يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ولكنهم عاشروهم حقبة طويلة من الزمن تأثروا بعباداتهم ، وألفوا ما كانوا يألفون ، لقد كان المصريون يعبدون العجل ، ويقدسونه ، وقد أراد الله تعالى أن يقتلع من بني إسرائيل ما تأثروا به ، وقد رأينا السامري أضلهم فعبده بعضهم ولم ينههم سائرهم عن عبادته ، فاشتركوا جميعا في هذا المنكر .
وإن الله تعالى قد اختبرهم ليزيل ما في نفوسهم من نزعة إلى تقديسه أو بقية من هذا التقديس فقال رسولهم الأمين القوي:{ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} ولو أتوا إلى أية بقرة فذبحوها لكان في ذلك استجابة لأمر الله تعالى ، لأن الأمر المطلق تتحقق الإجابة فيه بالتنفيذ في أية جزئية من جزئياته ، والمطلق يتحقق وجوده في أي فرد من أفراده .
ولكن الطلب لم يصادف أهواءهم وحالهم في ذات أنفسهم فأخذوا يراوغون بكثرة الاستفهام ، وإن أول التمرد هو كثرة الأسئلة ، والطاعة ألا تتمرد ، ولا تثير الجدل ، وكان أول قولهم في مجاوبة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام أن قالوا ، وكأنهم يتهكمون:{ أتتخذنا هزوا} والهزو اللعب والسخرية ، أي أنهم يستغربون ذلك الطلب ، ولا ندري لماذا يكون الأمر بالذبح سخرية بهم ، وعبثا بعقولهم العابثة إلا أن يكون ذلك مخالفا لمألوفهم ، وبالغوا في الهزء فقالوا:{ أتتخذنا هزوا} أي أتجعلنا بأمرك في موضع الهزء والسخرية ، وذلك لما ألفوه من أن البقرة مقدسة لا تذبح بل تعبد ، وإذا لم تكن عندهم هذه الحال فإنه لا موضوع لأن يستهزئ بهم ، ولا أن يسخر منهم بذكر أمر الله تعالى .
فقال موسى كليم الله:{ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ( 67 )} كانت إجابتهم لأمر الله تعالى خروجا عن طاعته بأغلظ القول وأفظه ، فأجابهم الرسول الرفيق ، فقال:أعوذ بالله تعالى أن أكون من الجاهلين ؛ أي ألجأ إليه عائذا به متجها إليه أن أكون من الجاهلين ، لأن الجاهل هو الذي يجعل الهزء والسخرية في موضع الجد وبيان أمر الله تعالى ، ونفى سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وصف الجهل ، ولم يكتف بنفي الفعل ؛ لأنه أبلغ وبيان أنه لا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى:أولي العزم من الرسل ، وبالغ عليه السلام في نفي الجهل بنفي أن يكون من زمرة الجاهلين لما يجب على الرسول من بيان أمر الله تعالى .