في هذه الآيات ،قصة مثيرة من قصص بني إسرائيل ،وذلك من جهتين ؛فهي من جهة تشتمل على جانب من الإعجاز ،من حيث إحياء اللّه الميت القتيل الذي انطلقت القصة في أجواء الخلاف في قاتله ؛وهي من جهة ثانية تشتمل على صورة مجتمع بني إسرائيل من الداخل ،وتوضح لنا الطريقة التي يواجه بها أفراده الأوامر الصادرة من موسى إليهم ،مما يوحي بطبيعة المشاغبة التي تجعلهم يواجهون القضايا من موقع التعقيد ،لا من موقع البساطة ،فيحوّلون مهمة النبيّ في قيادته الفكرية والعملية إلى مهمّة صعبة ،لأنَّ هناك فرقاً في حركة القيادة ،بين قيادة تتحرّك في جمهور يطيع الأوامر كما ترد في صيغة الأمر ،وبين قيادة يقف جمهورها ليسأل عن كلّ صغيرة أو كبيرة من دون أن يكون ذلك داخلاً في حساب مسؤوليته ،فإنَّ ذلك يعطّل الحركة وينذر بالهزيمة في أصعب المواقف وأكثرها تعقيداً عندما تكون بحاجة إلى الحسم والتحرّك السريع .
ولا بُدَّ لنا من وقفةٍ أمام هذا الحوار بين موسى وبين قومه ،لنستجلي بعض خصائصه الموضوعية ،فقد طلب منهمباسم اللّهأن يذبحوا بقرة ،فاستغربوا الطلب ،لأنهم لم يفهموا علاقته بالقضية المتنازع عليهاأو هكذا حاولوا أن يصوّروا الموضوعفاعتبروا ذلك هزءاً وسخرية بهم من موسى ،فدلّلوا على أنهم لا يعرفون مقام النبوّة ولا شخصية النبيّ بأبعادها الروحية التي تمنعه من أن يوجّه إليهم طلباً باسم اللّه على سبيل العبث والسخرية بهم ،فإنَّ ذلك يعتبر إساءةً للّه باستخدام اسمه في هذا المقام وبالكذب عليه ،لأنه يخبرهم بأنَّ اللّه يأمرهم بذلك من دون أساس .
] وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً[ أية بقرة] قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا[ لأنَّ مثل هذا الأمر لا يخضع لأية مناسبة تتصل بحياتنا في أوضاعنا الخاصة والعامة ،فليس المورد مورد قربان نقدّمه إلى اللّه في مناسباته الخاصة لنعتبرها قرباناً له ،وليس المقام مقام دعوة للإطعام لنقدّم لحمها للآكلين الفقراء ،وليس هناك شيء آخر يدخل في دائرة التصوّر الواقعي المعقول .
وكان جواب موسى في مستوى المدلول السيىء لردود قومه عليه ،ولذا جاء جوابه زاخراً بالمرارة] قَالَ أَعُوذُ بِاللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ[،فقد استعاذ باللّه أن يكون من الجاهلين ،لأنَّ مثل هذا التصرّفعلى حسب مفهومهم الخاطىءيجعل موسى في موقف الجاهل الذي لا يعرف كيف يتصرّف وأين يضع كلماته ،ولا يَعقل مركز النبوّة ومنطلقاتها العملية ،كما أنه لا يمكن أن يحدّثهم عن اللّه بما لم ينزله عليه ،ومما لم يأمرهم به ،لأنَّ ذلك يعتبر خيانة من الرسول وكذباً على اللّه ،وكيف يمكن أن يسخر موسىالنبيّ بالنّاس الذين جاء لهدايتهم وربطهم بالجانب الجدي في مواقع المسؤولية في الحياة ،لا سيما إذا كانت المسألة مرتبطة بالعمل الذي يكلّفهم الكثير من الجهد والمال والتعقيدات الاجتماعية .