{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 35 )} .
مشكاة: قيل إنها الكوة غير النافذة في الجدار التي يوضع فيها السراج .
وقيل: هي القنديل الذي يوضع فيه السراج والمادة الدهنية التي يغمس فيها الفتيل أو الحدائد التي يعلق بها القنديل .وقيل: إنها معربة .وقيل: إن لها أصلا في الفصحى وهو الشكوة بمعنى القربة .ومقامها يلهم أنها آنية صافية ،أو أنها القنديل الذي يعلق في السقف وهذا هو الذي تعرف به الآن .
مصباح "قيل: إنه السراج وقيل: إنه القنديل وقيل: إنه الفتيلة المضيئة ،ونرجح القول الأخير استلهاما من روح العبارة ومداها .
دري: نسبة إلى الدر وهو اللؤلؤ بقصد تشبيه اللون والصفاء واللمعان ،وكان العرب يسمون النجم الشديد اللمعان والسطوع كوكبا دريا وجمعه دراري .
قد تكون هذه الآية بدء فصل جديد لا صلة له بالسابق .وقد تكون متصلة بالآية السابقة بسبيل التنويه بنور الله الساطع فيما أنزله من الآيات .ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الثاني استلهاما من المناسبة .
وقد احتوت كما يتبادر لنا:
تقريرا بأن الله هو نور السماوات والأرض جميعا ،أي منورهما بنوره .
وتمثيلا لنوره بما يمكن أن يفهمه الناس من مشاهد الدنيا وأمثلتها تقريبا لأذهانهم ،فنوره مثل نور زيت شجرة الزيتون المباركة التي نبتت في أحسن البقاع وأكثرها اعتدالا ،فليست في أقصى الشرق فتشتد عليها حرارة الشمس ولا في أقصى الغرب فتشتد عليها البرودة ،فجاء زيتها نقيا صافيا ،وقد وضع في زجاجة صافية بيضاء لامعة كأنها كوكب دري .وقد وضع المصباح في الزجاجة ووضعت الزجاجة في مشكاة .والمصباح يوقد من ذلك الزيت النقي الصافي الذي يكاد يضيء ،ولو لم نمسسه نار ويكون نورا لغيره الموضوع في تلك الزجاجة التي كأنها كوكب دري بلمعانها وصفائها ،وهذا مثل نور الله هو نور في ذاته ونور لغيره .
وتعقيبا على هذا التمثيل بأن الله إنما يهدي لنوره من يشاء وأنه يضرب الأمثال للناس ليتدبروها ،وأنه العليم بكل شيء ومقتضيات كل شيء .
والمتبادر لنا كذلك أن الآية من حيث الإجمال أسلوب من أساليب تقريرات القرآن لعظمة ذات الله وآثاره الباهرة الظاهرة في السماوات والأرض .وقد استهدفت تقرير كون نور الله وهداه في آياته قد بلغا من الظهور والسطوع والصفاء والسناء أقصى الغايات ،فإذا لم يهتد بهما أحد ما فلن يكون ذلك بسبب غموض أو خفاء أو ضعف نور وجلاء فيهما ،وإنما يكون بسبب قصور فيه .فالله إنما يهدي لنوره من يشاء ممن حسنت نياتهم وطابت سرائرهم ولم يتعمدوا الضلال والغواية .أما خبثاء النية والطوية المعاندون المكابرون فهم عمي لا يبصرون نورا الله فلا يهتدون به .ولعل في الآيات التالية قرائن مؤيدة لهذا التوجيه إن شاء الله .
ولقد صرف بعض المؤولين من التابعين على ما ورد في بعض كتب التفسير الضمير الغائب في ( نوره ) إلى المؤمن وقالوا: إن الآية مثل ضربه الله للمؤمن ولكن الجمهور على أنه نور الله تعالى ،وهذا هو الأوجه المتسق مع نص الآية .
ولقد أورد المفسرون تأويلات عديدة للآية .منها أنها مثل ضربه الله لتبيين هدى نور الله وأثره .ومنها أنها مثل ضربه الله لنبيه .فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح النبوة والشجرة المباركة هي شجرة إبراهيم الحنيف المسلم لا شرقية ولا غربية أي لا يهودية ولا نصرانية .ومنها أنها مثل ضربه الله لطاعته فسماها نورا ،وأضاف هذا النور إلى نفسه تفضلا .ونلمح في هذه التأويلات شيئا من التكلف ونرجو أن يكون كما تبادر لنا هو الصواب{[1517]} .
وفي كتب تفسير الشيعة روايات معزوة إلى أئمتهم في تأويل الآية فعن الرضا قوله ( نحن المشكاة والمصباح فيها محمد يهدي لولايتنا من أحب} وعن أبي جعفر قوله ( نور العلم في صدر النبي المصباح في زجاجة .والزجاجة صدر علي فصار علم النبي إلى صدر علي ،ومعنى يكاد زينتها يضيء ولو لم تمسسه نار أي يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل .ومعنى نور على نور أي إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد مثله .فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه وحجته على خلقه لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم كما لا تخلو السماوات والأرض من نور الله ){[1518]} والتكلف والهوى الحزبي ظاهران في هذه الروايات .