نور الله ومساجده
النور في لغة العرب ضد الظلام وهو الذي يضيء للأبصار فترى الأشياء وتميز بينها ، وقد أطلق على سبيل المجاز على ما يميز بين المعاني فيفرق بين الحق والباطل ، ولذا وصف به القرآن الكريم ، فقال تعالى:{. . . وأنزلنا إليكم نورا مبينا ( 174 )} [ النساء] ، وقال تعالى في وصف الكتاب:{. . . والكتاب المنير ( 184 )} [ آل عمران] ، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم نورا فقال تعالى:{. . . قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( 15 )} [ المائدة] .
وأطلق على التدبير المحكم ، فيقال في مدح الملوك:الملك نور هذا البلد ، وعلى رب البيت أنه نور البيت . وفي كل هذه الأمثلة يكون النور معنويا فاصلا بين الحق والباطل ، والسديد وغير السديد ، وعلى هذا نذكر معاني قوله تعالى:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي الله مدبر الوجود ومنشئه ، خلقه ودبره في أدق نظام ، وأعظم إبداع ، فربط بين أجزائه برباط محكم لا تنفصل كواكبه ، ولا نجومه فتتساقط كوكبا بعد كوكب ، ونجما بعد نجم ، يأبى الله على السموات والأرض أن تزولا ،{ ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . . . ( 41 )} [ فاطر] .
فقوله تعالى:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كلمة ( نور ) من قبيل الاستعارة ، إذ شبه إدارة الله تعالى للسموات والأرض وتعليماته للعقلاء ، وتسخيرها لغير العقلاء ، بنظام رتيب محكم دقيق بالنور المميز ، فصح وصف الله تعالى أو الإخبار عنه بالنور على هذا المعنى المجازي المصور لما نرى ونحس ، ونور الله فوق ما نبصر وأعلى مما ندرك .
صور الله تعالى نوره المميز للأشياء والعقلاء مقربا له من مداركنا فيما نحس ونعلم ونرى ، فقال تعالى:{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} المشكاة هي الكوة في البيت ، والمصباح في هذه المشكاة أي في الجدار الذي فتحت فيه الكوة ، وهي النافذة الضيقة التي ينبعث منه النور للبيت وهي في ذاتها منيرة ، وينبعث نورها بقوة ، لضيقها ، ويشع داخل الحجرة ، ومع ذلك قد وضع في جدارها مصباح فيه زجاجة ، وهي قنديل الزيت ، وهي صافية صفاء واضحا ، ومتلألئة ، وكأنها كوكب دري ، و{ دري} ، كالكواكب الدرية المزهرة المنيرة ، و{ دري} نسبة للدر المتألق ، وذلك إذا قرئت بضم الدال ، وتقرأ بكسرها دري ، وتكون على وزن فعيل وهي من الدر قلبت الهمزة ياء ، وذلك الإعلال كثير في اللغة العربية ، وأدغمت التاء في الياء لسكون إحداهما{[1571]} . والدرء:الدفع ، ويكون معناها أنها تدفع الظلام ، وقوله تعالى:{ يوقد من شجرة مباركة} الضمير في يوقد يعود على{ كوكب} المشبه به في الآية ، وهذا على قراءة الياء ، وعلى قراءة التاء يعود الضمير إلى زجاجة ، وهي المتحدث عنه .{ من شجرة} "من"للابتداء ، أي مصدر الوقود شجرة مباركة ، وهذه الشجرة هي شجرة الزيتون ، والوقود من زيتها فهو منها ، على هذا المعنى ، وقد قال تعالى في هذه الشجرة على أنها من نعم الله تعالى:{ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ( 20 )} [ المؤمنون] ، وكانت الشجرة مباركة ، وكما قال الزمخشري وصفها سبعون نبيا بأنها مباركة ، وحسبها وصف القرآن ، وصفها القرآن بأنها مباركة هنا وفي سورة "المؤمنون"، وإذا كانت سورة "المؤمنون"مكية ، وسورة "النور"مدنية ، فقد أجمع القرآن المكي والمدني على أنها مباركة ، وبركتها في أنها ذات منافع كثيرة ، يكون منها الوقود المضيء ، وهو دهن يكون طعاما طيبا ، وهو يدخل في أدوية الجلد الطبية ، وترابه إذا حرق يكون كحلا للعيون ولا يضرها ، وهو إدام ، والزيتون نفسه للطعام ، وهو الصبغ الذي قال الله فيها:{ وصبغ للآكلين} .
وقال عز من قائل:في وصف هذه الشجرة المباركة ( زيتونة ) وهذا بدل من ( مباركة ) ، وهو إيضاح بعد إبهام فيكون فيه بيان مؤكد ، وقد وصفها سبحانه بقوله:{ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّة} ، أي أنها في وسط الأرض لا ينقطع عنها ضوء الشمس ، إذ الشرقية ينقطع عنها الضوء في المساء ، والغربية ينقطع عنها الضوء في الصباح ، فهي لا تستر عنها الشمس في المساء أو الصباح ، وهذا يساعد على نموها ونمو ثمارها .
ووصف سبحانه وتعالى زيتها بالصفاء فقال تعالى:{ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فهو صاف لا عكرة فيه ، ومشرق لا دكنة فيه .
{ نُّورٌ عَلَى نُورٍ} ، أي أنه نور يجيء على نور ، فنور المشكاة التي تدخل الحجرة نورها فيضيء ، ونور الصباح ، ونور الزجاجة ، التي هي الكوكب الدري ، ونور الزيت الذي يكاد لصفائه يضيء .
وكل هذا وصف لنور الله الهادي المرشد ، فإنه يغمر القلوب التي تفتح له بالهداية ، وأما الذين حقت عليهم الضلالة فإنهم لا يهتدون ، وسدت القلوب عن أن يصل النور إليها .
ولذا قال تعالى:{ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء} وهو من سلك طريق الهداية ، وأبعد عن نفسه الغواية ، التي يوسوس بها الشيطان ، ويحاول جاهدا أن يغوي عباد الله ،{ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} ، يبين سبحانه وتعالى الأشباه والنظائر والغايات والنتائج ليهتدوا ،{ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، أي بكل شيء عليم ، يعلم المهتدين وطريق هدايتهم ، ويعلم الضالين وعاقبة ضلالهم ، فهذه الجملة فيها تبشير للمؤمنين المهتدين ، وإنذار للضالين الذين أغواهم الشيطان .
وقبل أن نترك الكلام في معاني هذه الآية لا بد من ذكر إشارة بيانية ، هي أن الله تعالى ذكر{ مصباح} منكرة ثم ذكرها من بعد معرفة ، فيكون المبهم والمعرف واحدا ، والذكر بالإبهام تم التعريف فيه بيان بعد إبهام ، وفي ذلك فضل بيان وتأكيد ، وكذلك بالنسبة لزجاجة فقد ذكرت نكرة ، ثم ذكرت معرفة ، وذلك فيه أيضا بيان وتأكيد للبيان