وقد بين سبحانه بعد ذلك مكان النور الرباني ، فيكون أشد ما يكون في المساجد ، فقال تعالى:
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ( 36 ) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ( 37 )} .
الآيتان مرتبطتان بالآيات التي قبلهما إعزازا لمعني ، وذلك لأن قوله تعالى:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} الجار والمجرور متعلقان بالآية التي قبلها ، وفيها عدة أفعال كل فيها يصلح متعلقا ، فيصح أن يكون متعلقا بقوله:{ يوقد من شجرة} ، ويصح أن يكون متعلقا بقوله:{ يكاد زيتها يضيء} ويصح أن يكون التعليق بقوله:{ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء} فالتعليق يصح أن يكون لفعل من هذه الأفعال ، فالمساجد تتعلق بالنور والهداية ، وهي بيوت الله تعالى ، وفيها النور ، وفيها يوقد النور الإلهي ، وفيها الهداية .
ونكرت البيوت ، لتذهب النفس في تعرفها كل مذهب ، وقد عرفها سبحانه وتعالى بوصفها الذي يجليها ، ويزيل إبهامها للنكرة ، وهو قوله تعالى:{ أذن الله} الإذن الإعلام ، ورفعتها هي رفعة مكانتها وقدرها ، فالرفعة معنوية لا حسية ، ورفعتها المعنوية ، لأن فيها النور وفيها الهداية ، وفيها السمو ، وفيها الربانيون الذين لا يريدون إلا رضا الله تعالى ، وإنه يقترن بهذه الرفعة ، أو بذكر اسم الله تعالى ، ولذا قال تعالى:{ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ، أي تتذكر القلوب اسم الله تعالى ، وتمتلئ بهيبته وجلاله ، وترتفع إلى مقام التجرد الروحي لله تعالى ، فليس المراد كما يظهر ذكر اسم الله بلفظ الجلالة ، وترداده في حلقات ذكر ، وما تلهث فيه الأنفاس وتردده من صياح ، بل المراد تذكر القلب والعقل لعظمته وامتلاؤها بجلاله ، وتقشعر منه الجلود ، لا بمجرد التمايل في حلقات ربما يتوسطها الشيطان ، ويكون فيها تقديس الله تعالى ، وتنزيهه وعبادته كما جاء بها القرآن والسنة ، ولذا قال تعالى:{ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} ، أي في الصباح ، وهو أول اليوم ، والآصال ، وهي جمع أصيل ، وهو آخر اليوم ، وربما يدخل فيها ما بعدها ، وهو العشي ، كما قال تعالى في آية أخرى{. . . بكرة وعشيا ( 11 )} [ مريم] ، والتسبيح هنا يحتمل أن يراد به التنزيه المطلق ، ويكون المراد أنه في هذه البيوت التي يذكر فيها اسم الله تعالى ينزه الله تعالى ويقدسه فيها رجال . . إلى آخره ، فهي بيوت الله لا يذكر فيها غيره ، ولا يقدس فيها سواه .
ويحتمل أن يراد بالتسبيح الصلاة ، وقد عبر سبحانه عن الصلاة بالتسبيح والتنزيه في قوله تعالى:{ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( 17 ) وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ( 18 )} [ الروم] ، قد جعل الله تعالى الصلاة موضع عبادته وتنزيهه ، وهي عمود الدين ، ولا دين من غير صلاة ، ولكن لم يذكر الله تعالى من أوقات الصلاة إلا الغدو والآصال ، ونقول:إن ذكر الآصال والغدو هو ذكر لما بينهما من الظهر ، ولما بعدهما من العشي ، وأن تفسير التسبيح بالصلاة أنسب للمساجد التي هي بيوت الله ، كما قال تعالى:{ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ( 18 )} [ الجن] .