{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ ( 88 ) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 89 )} [ 88 – 89] .
تعددت الأقوال في تخريج كلمة ( وقيله ) ومحل عطفها ،والمتبادر أنه حكاية قول صادر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعبر عن ألمه من عناد الكفار ويأسه من إيمانهم .
وقد سرى عنه في الآية الثانية وأمر بالصفح وإعلان السلام للناس وتركهم وشأنهم فسيعملون من هو على الحق ومن هو على ضلال .
والصلة قائمة بين الآيتين وما سبقهما من حيث إن الكفار المشركين هم موضوع الكلام فيهما وقد جاءتا خاتمة قوية لموقف اللجاج والحجاج وللسورة معا جريا على النظم القرآني .
وقد انطوت في الجملة الأخيرة من الآية الثانية تطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبث الوثوق والاستعلاء في نفسه .والأمر بالصفح عنهم وإعلان السلام للناس ينطويان على التوكيد بأسلوب رائع محبب بأن مهمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق ثم ترك الناس وشأنهم يختارون ما يريدون دون ما إجبار ولا إبرام ولا عداء ولا حقد مع تقرير هذا له ولمن آمن به ،ومع الاطمئنان إلى أن ما يدعو إليه هو الحق والهدى ،وأن ذلك سوف يظهر للناس مما قد تكرر تقريره في القرآن كثيرا وبأساليب متنوعة .ولقد ظهر ذلك حقا وتحققت المعجزة القرآنية بدخول الناس في دين الله أفواجا وفيهم غالبية أهل مكة الذين كانوا يقفون المواقف العنيدة المناوئة التي حكتها الآيات التي كانت تثير في النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحزن والألم والحسرة .
ولقد روى المفسرون{[1859]} عن بعض علماء التابعين مثل قتادة ومقاتل أن حكم الآية الثانية قد نسخ بآيات القتال ،وهذا القول قد تكرر في مناسبات مماثلة كثيرة سبقت أمثلة منها .ونكرر هنا ما قلناه قبل من أن النسخ قد يصح بالنسبة إلى الأعداء المعتدين على المسلمين والصادين عن الدعوة والطاعنين بالدين الإسلامي .أما الموادون والمسالمون للمسلمين فالتعامل معهم في نطاق الصفح والسلام وتركهم وشأنهم بعد الدعوة وبيان هدى الله فهو محكم على ما أوردنا دلائله في سياق سورة ( الكافرون ) والله تعالى أعلم .
تعليق على جملة
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ}
وبالإضافة إلى ما قلناه في مدى هذه الجملة في مقامها فهناك ما يمكن أن يضاف إليه أيضا .
فالأمر هنا موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصفح عن الجاحدين برسالته وليقول لهم سلام ،وفي سورة الأنعام آية تأمره بأن يقول للمسلمين الفقراء الذين آمنوا به سلام عليكم [ الآية/ 54] وهناك آيات كثيرة أخرى منها آيات تفيد أن السلام هو تحية أهل الجنة فيما بينهم [ آية سورة يونس / 10 وآية سورة إبراهيم /23]{تحيتهم فيها سلام} ومنها ما يفيد أن الملائكة يستقبلون المؤمنين في الآخرة بالسلام [ النحل / 32 والزمر/ 73 والرعد/ 24] ومنها ما أمر فيه بإلقاء السلام على أهل البيوت التي يدخلها المسلمون:{فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم{[1860]} تحية من عند الله مباركة طيبة ..........} سورة النور: [ 61] ،ومنها ما وجه للأنبياء من الله [ آيات سورة الصافات /109 – 130] ومنها ما حكي عن عباد الرحمن حينما يخاطبهم الجاهلون كما جاء في آية سورة الفرقان هذه:{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ( 63 )} .
والسلام هو بمعنى الأمان وضد الخصام وفيه معنى التطمين والتحبب والتأنيس ،ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في الحث على تعاطيه وآدابه ،منها حديث رواه أبو داود والترمذي ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ){[1861]} .وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( اعبدوا الرحمان وأطعموا الطعام وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام ){[1862]} .وحديث رواه الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( السلام قبل الكلام ) وقال: ( لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلم ){[1863]} .وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير ){[1864]} .وحديث رواه الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ( إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى بيتك ){[1865]} .وحديث رواه البخاري ومسلم عن أنس: ( أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمر بصبيان فيسلم عليهم ){[1866]} .وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت: ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر علينا بالمسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم ){[1867]} .وحديث رواه الترمذي عن أبي جري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله ){[1868]} .وحديث رواه البخاري عن أسامة بن زيد: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بمجلس وفيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم ){[1869]} .حيث يبدو من كل هذا تلقين جليل رباني ونبوي للمسلمين بأن يجعلوا السلام عنوانا لمقابلاتهم وصلاتهم بالناس على اختلاف فئاتهم مما فيه روعة وجلال ،ومما جعل السلام على الناس من العادات الحسنة التي تميز بها المسلمون منذ حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
هذا ،ولقد بدأت السورة بعد مطلعها بالتنديد بالمشركين لعقيدتهم بكون الملائكة بنات الله وانتهت بمثل ذلك أيضا ،وهكذا تم الارتباط بين بدايتها ونهايتها مما يدل على ترابط فصولها ووحدة نزولها .