{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( 46 ) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 47 )} ( 46 – 47 ) .
تعليق على الآية:
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
والآية التالية لها وما ينطوي فيهما من أحكام
عبارة الآيتين واضحة .وقد احتوتا:
( 1 ) تقريرا بأن الله قد أرسل بعد أنبياء اليهود وتوراتهم عيسى ابن مريم عليه السلام مصدقا ومؤيدا للتوراة وآتاه الإنجيل أيضا .وفيه هو الآخر نور وهدى وموعظة لمن يخشى الله ويتقيه ،ومصدق وموقت في الوقت نفسه للتوراة التي نزلت قبله .
( 2 ) وإيجابا على أهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه ،وإنذارا بأن من لم يحكم كذلك فهو فاسق خارج عن أمر الله .
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيتين .والمتبادر أنهما جاءتا في مقام الاستطراد ؛حيث اقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكر عيسى عليه السلام وإنجيله بعد ذكر التوراة وأنبياء بني إسرائيل ،وإيجاب الحكم بالإنجيل على النصارى بعد إيجاب الحكم بالتوراة على اليهود .والمتبادر تبعا لذلك أن تكون الآيتان نزلتا عقب الآيات السابقة لها مباشرة .والله أعلم .
وجملة:{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} تعني آثار النبيين المذكورين في الآية ( 44 ) وهذا يعني أن المقصود بكلمة النبيين هم أنبياء بني إسرائيل ،ويؤيد ما قلناه قبل في سياق شرح هذه الآية .
وجملة:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ} قوية التأييد للرأي الثاني الذي وجهناه في الفقرة الخامسة في سياق الآيات السابقة ،وعدم صحة قاعدة ( شرع من قبلنا شرع لنا ) كما هو المتبادر .
ولقد قرئت اللام في كلمة{وليحكم} بالسكون على معنى الأمر ،كما قرئت بالكسر بمعنى ( كي يحكم ) .وكلتا القراءتين صحيحة المعنى في مقامها .غير أن جملة:{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أولا والآية ( 68 ) من هذه السورة التي تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء ،حتى يقيموا التوراة والإنجيل ثانيا مما يرجح القراءة الأولى .
ولقد رأينا السيد رشيد رضا يورد زعم النصارى أو مغالطتهم بأن هذه الجملة تعني أنهم غير مخاطبين بالقرآن وحكمه .وهذا الزعم غير مستقيم ؛لأن كل ما تعنيه الجملة بالنسبة للنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده أن عليهم إذا أرادوا أن يحتفظوا بنصرانيتهم أن يحكموا بما في الإنجيل ،ويسجل عليهم الفسق إذا خالفوه في أحكامهم .أما كونهم مخاطبين في القرآن ومدعوين إلى الإيمان به وبالرسالة المحمدية ففي القرآن آيات عديدة في ذلك من أقربها آيات هذه السورة ( 15 – 16 ) و ( 19 ) .
وهذه الجملة تؤيد كما يتبادر لنا وذكرناه في سياق تعليقنا على الإنجيل في سورة الأعراف أنه كان في أيدي النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنجيل لعيسى لا بد من أنه كان يحتوي ما أنزله الله عليه من وصايا وتعاليم وأحكام .ومن الجدير بالذكر أن في إنجيل مرقس المتداول اليوم عبارات صريحة بأنه كان لعيسى إنجيل وأمر تلامذته بالتبشير به .وفي رسائل بولس ذكر لهذا الإنجيل أيضا ( 1 ){[816]} .وليس في أيدي النصارى إلا الأناجيل التي كتبها كتابها بعد وفاة عيسى وضمنوها سيرته .
وينطوي في الجملة أن للنصارى الذين هم في نطاق السلطان الإسلامي حق التقاضي في قضاياهم فيما بينهم أمام قضاتهم كما هو الأمر بالنسبة لليهود على ما شرحناه قبل .وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه ،وخاصة في الإيجاب على السلطان الإسلامي ملاحظة التزامهم لأحكام الإنجيل وتعاليمه في قضاياهم .وإذا كان يمكن أن يقال: إن إنجيل عيسى مفقود وهو ما يقال بالنسبة لتوراة موسى أيضا ،فما قلناه في صدد الحالة بالنسبة لليهود يصح قوله هنا أيضا ،من حيث إن في الأناجيل المتداولة أشياء كثيرة من أقوال وتعاليم ووصايا وأحكام معزوة إلى عيسى عليه السلام أو إلى الله عن لسانه عليها سمة الوحي .فيصح أن يترك لهم هذا على أن يكونوا في نطاقه وحسب .ومن الجدير بالذكر أن في الأناجيل المتداولة ما يفيد أن شريعة التوراة تظل شريعة للنصارى مما لم ينسخه عيسى رأسا أو بأمر الله .فيكون لهم أن يتحاكموا أيضا بشريعة التوراة .والله أعلم .
ولقد رأينا ابن كثير يذكر في سياق تفسير الجملة التي نحن في صددها أنها توجب على النصارى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛لأن الإنجيل يحتوي بشارة به .ومع وجاهة هذا القول في ذاته فالمتبادر أن الجملة هي في صدد التحاكم القضائي ؛لأن هذا هو مقتضى السياق .ودعوة القرآن للنصارى إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكونها لهم في جملة الناس وإيجاب الإيمان بها عليهم ،وتقرير كونهم يجدون صفاته في التوراة والإنجيل ،وكون عيسى قد بشر به قد انطوى في نصوص قرآنية بأسلوب أصرح .وقد فهمها طوائف كبيرة من النصارى على هذا الوجه وآمنوا بها على ما شرحناه في سياق تعليقنا على الآية ( 157 ) من سورة الأعراف وغيرها .
هذا ،وهناك مسألة قد تتفرع عن السماح لليهود والنصارى بالتقاضي فيما بينهم وفق كتبهم ،وهي حالة غير المسلمين الذين يعيشون في كنف السلطان الإسلامي ذميين ومعاهدين فإنهم قد لا يكونون جميعا يهودا ونصارى ،وقد يكون منهم من هو منتسب إلى ملل أخرى .ويتبادر لنا أن حكمة اختصاص اليهود والنصارى والتوراة والإنجيل بالذكر هي كونهم الذين كان للعرب بهم الاتصال الأوثق والأوسع قبل الإسلام .وقد ألممنا بمسألة مماثلة في سياق الآية الخامسة من هذه السورة ،ونقول هنا ما قلناه هناك إنه إذا ادعت ملة من الملل التي تعيش في كنف السلطان الإسلامي أن عندها كتابا موحى من الله إلى أحد أنبيائها فيه شرائع لها وأظهرته وكان عليه سمة من سمات الكتب السماوية بقطع النظر عما يكون فيه من مخالفات للقرآن ؛لأن هذا شأن الأسفار التي يتداولها اليهود والنصارى أيضا فليس للمسلمين أن يكذبوها ويصح أن يعاملوا أهلها في هذه المسألة على ذلك الأساس أيضا .أما إن كان هناك ملة ليس لها كتاب تدعي أنه سماوي منزل على نبي دون دليل قوي من واقع ونص فينطبق عليها وصف الجاهلية الوارد في الآية ( 50 ) التي تأتي في السلسلة التالية ويكون الشرع الإسلامي هو الذي يجب القضاء به في قضاياها .والله تعالى أعلم .