{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} روح الله وكلمته الّتي ألقاها إلى مريم ،أي أتبعنا على آثار النبيين الَّذين أسلموا لله بهذا الرّسول المميّز في خلقه وفي دلائل الإعجاز في شخصيته ،فقد جاء ليكمل المسيرة الرساليّة في خط الرسالات الإلهيّة ،لا ليهدم الخط الَّذي سار عليه الرسل ،لا سيّما موسى الَّذي جاء بالتوراة وحياً من الله ،فكان{مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ} فأكد للنَّاس أنَّها الحقيقة الإلهيّة الّتي لا بُدَّ لهم أن يؤمنوا بها ويلتزموها في أفكارهم وشرائعهم ،لأنَّها كتاب الله الَّذي{لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [ فصّلت: 42] ،وهكذا كانت النبوّات تتتابع ليصدق بعضها بعضاً ،تأكيداً لتآخي الرسل والرسالات ،لأنَّ النور لا ينقلب إلى ظلمة ،ولأنَّ الهدى لا يتحول إلى ضلال .
{وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} الَّذي أنزلناه على عيسى{فِيهِ هُدًى} مما يرفع عن النَّاس غشاوة الضلال ،ويفتح لهم آفاق الهدى ،{وَنُورٌ} يضيء لهم ظلمات الطريق ،فلا يترك مشكلة إلاَّ ولها حل عنده ،ولا شبهة إلاَّ ولها مزيل لديه ،وهكذا رأينا التوراة الرساليّة تشمل الكتب الإلهيّة ،فالتوراة نور والإنجيل نور والقرآن نور على ما جاء به قوله تعالى:{يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [ المائدة: 15] .
فهذه الكتب جاءت من أجل أن تعطي الإنسان النور لعقله وقلبه وإحساسه وحياته في الخط الفكري والشعوري والعملي ،فلا يبقى متخبّطاً في ظلمات الشك والشبهة والضلال ،بل ينفتح على كل الإضاءات التوراتيّة والإنجيلية والقرآنيّة لتحل له كل مشكلة ولتزيل كل شبهة ،ولترفع أيّة ظلمة .
{وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} وهكذا كان الإنجيل مصدقاً بالتوراة ،كما كان عيسى مصدقاً بها ،فالتقى الرسول بالرسالة في هذا الجانب ،وربَّما كان في التكرير إشارةٌ إلى أنَّ الإنجيل تابع لشريعة التوراة ،فلم يكن في الإنجيل إلاَّ الإمضاء لشريعة التوراة والدعوة إليها ،إلاَّ ما استثناه عيسى المسيح في قوله:{وَلاُِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [ آل عمران: 50]{وَهُدًى} يهدي به الله من اتبعه إلى الحقّ وإلى صراط مستقيم ،{وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} تلين القلب بذكر الله ،وترقق الشعور بآياته ،وتفتح العقل على آفاق القرب منه ،فتدفع النَّاس إلى الطاعة ،وتبعدهم عن المعصية ،وتقرّبهم منه ،وتبعدهم عن الشيطان .