{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} من الحقّ ،لأنَّه يمثِّل كلمة الله فلا يحرّفوه عن مواضعه ،وقد جاء في تفسير الميزان في تفسير هذه الفقرة قال: «وقد أنزل فيه تصديق التوراة في شرائعها إلاَّ ما استثني من الأحكام المنسوخة الّتي ذكرت في الإنجيل النازل على عيسى( ع ) ،فإنَّ الإنجيل لما صدَّق التوراة في ما شرّعته ،وأحلّ بعض ما حرّم فيها ،كان العمل بما في التوراة في غير ما أحلّها الإنجيل من المحرّمات عملاً بما أنزل الله في الإنجيل وهو ظاهر » .وما ذكره ليس ظاهراً ،لأنَّ الظاهر أنَّ مضمون الحكم موجود في التوراة الّتي أمر الإنجيل بالأخذ بها ،وربَّما كان المقصود بالحكم بما في الإنجيل هو الخطوط العامّة للعدل وللخير والمحبة وغيرها من المفاهيم الأخلاقيّة والروحيّة الّتي تتمثل في مسألة السلوك الإنساني على صعيد العلاقات .
هل لأحكام الإنجيل سيادة في وقتنا الحاضر ؟
وقد أثار المفسرون حديثاً أنَّ الآية لا تأمر أهل الإنجيلوهم النصارىأن يواصلوا العمل بأحكام الإنجيل في عصر الإسلام ،لأنَّ ذلك مناقض لآيات القرآن الأخرى ،ولوجود القرآن نفسه الَّذي أعلن نسخ الدين القديم بالإسلام .
ولذلك فإنَّ المرادحسب قولهمأنّ الآية تتحدث عن مرحلة نزول الإنجيل ،فقد أمر الله النَّاس آنذاك أن يعملوا به وأن يحكِّموه في جميع قضاياهم .ولهذا قالوا بالتقدير: «وقلنا: وليحكم أهل الإنجيل ...الخ » .
ولكنَّ الظاهر أنَّ الآية واردةٌ في مقام إقامة الحجَّة على المنتمين إلى الإنجيل في التزاماتهم الفكريّة والعمليّة من حقائق الإيمان والأخلاق ،ومفاهيم الكون والحياة ،مما يثبت حقائق الإسلام الّتي تلتقي بها ومنها نبوّة النبي( ص ) الّتي بشر بها عيس( ع ) .وليس من المعلوم أنَّ الإنجيل قد تعرّض للنسخ في آياته ،لا سيّما أنَّ مضمونه ليس متضمناً للشريعة المفصّلة ،بل هو أخلاقٌ ومبادىء وقيمٌ عامّةٌ في البعد الروحي والإنساني ،فلا مانع من أن يتوجّه القرآن إليهم بالحكم بما في الإنجيل لأنَّه يلتقي بالحكم بما في القرآن ،الأمر الَّذي يشدّهممن مواقع اللقاءإلى ما في القرآن على أساس «الكلمة السواء » .والله العالم .
اليهود والنصارى سواء في رفض الدين الحق
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الَّذين خرجوا عن خط الاستقامة في الدين ،لأنَّ الحكم بما أنزل الله هو النتيجة الطبيعيّة للالتزام العقيدي العملي الَّذي يتجسَّد في السير على نهج العقيدة في مفاهيمها وأحكامها وخطوطها العامّة في حركة الإنسان والحياة ،فإذا كان الإنسان ملتزماً بدين الله ،فلا بُدَّ من أن يستهدي أحكام الدين وقوانينه في أحكامه ،لأنَّ هذا هو معنى الانتماء الَّذي يُمثِّل الارتباط العضوي بالخط الديني ،ولهذا كان الخروج عنه فسقاً وانحرافاً عن خط الطاعة إلى خط المعصية .
وقفه مع صاحب الميزان
وقد ذكر صاحب الميزان أنَّ الوجه في ذكر الفسق عند التعرّض لما يرجع إلى النصارى ،والكفر والظلم في ما يعود إلى اليهود ،«أنَّ النصارى بدَّلوا التوحيد تثليثاً ورفضوا أحكام التوراة بأخذ بولس دين المسيح ديناً مستقلاً منفصلاً عن دين موسى مرفوعاً فيه الأحكام بالتفدية ،فخرجت النصارى بذلك عن التوحيد وشريعته بتأوّل ،ففسقوا عن دين الله الحقّ ،والفسق خروج الشيء من مستقره كخروج لبّ التمرة عن قشرها .
وأما اليهود ،فلم يشتبه عليهم الأمر في ما عندهم من دين موسى( ع ) وإنَّما ردوا الأحكام والمعارف الّتي كانوا على علم منها ،وهو الكفر بآيات الله والظلم لها » .
ونلاحظ على ذلك أنَّ اليهود والنصارى يستوون في رفض الدين الحقّ وهو الإسلام ،وفي التحريف المتصل بنبوّة النبيّ( ص ) ،ولذلك أطلق عليهم جميعاً كلمة{الَّذِينَ كَفَرُواْ} في قوله تعالى:{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} [ البقرة: 105] كما أنَّ ابتعاد بولس عن دين موسى( ع ) يُمثِّل نوعاً من الكفر والظلم للحقيقة .
كما أنَّ الآيات كانت في مقام إطلاق الحكم بالكفر والظلم والفسق على الَّذين لا يحكمون بما أنزل الله من حيث انطباق العناوين الثلاثة عليه ،أمَّا اختلاف التعبير ،فقد يكون منطلقاً من الأسلوب القرآني الفني في تنويع الصفات في الموارد المتعددة في الذكر ،الموحدة في العنوان ،لتذكر كل صفة في كل آية ،لأنَّ ذلك أقرب إلى البلاغة ،وربَّما يؤكد هذا المعنى أنَّ الصفات لم تنطلق من الخصوصيّة بل من العنوان العام ،وهو عدم «الحكم بما أنزل الله من دون تفريقٍ بين موارده » .والله العالم .