{ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله}
/م46
في هذا النص الكريم قراءات نذكر منها قراءتين في قوله:"وليحكم":أولاهما:قراءة حمزة بكسر اللام وفتح الميم{[942]} ، وتكون اللام للتعليل ، ويكون في مقام العطف على ما سبق ، لأنه في معنى التعليل ويكون المعنى على هذه القراءة:( وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين . وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل فيه ) ، وأهل الإنجيل هم من عاصروا المسيح عليه السلام ، ومن جاءوا بعدهم حتى بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ يجب العمل بشريعته حتى يجيء ما ينسخها ، فالعمل واجب بشريعة الإنجيل من أهل الإنجيل فلما جاءت شريعة محمد عليه الصلاة والسلام صاروا أهل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .
والقراءة الثانية بسكون اللام ، وسكون الميم على أن اللام للأمر{[943]} ، وسياق الكلام على هذا يوجب تقدير محذوف ، وهو ( قلنا ) مثلا ليكون متقابلا مع أهل التوراة الذين قال تعالى فيهم:{ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . . .( 45 )}( المائدة ) . فالمعنى:وقلنا ليحكم أهل الإنجيل . وعلى هذا التقدير يكون العمل بالإنجيل سابقا على نزول القرآن .
وإذا لم تقدر كلمة قلنا ، فإن الكلام لا يدل على بقاء شريعة الإنجيل للنصارى ، وذلك لأنه بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم صاروا هم أهل القرآن لأنهم هم الذين يخاطبون برسالته ومعهم غيرهم من الخليقة ، فكل الذين يدركون نبيا هم أهل رسالته التي يخاطبون بها ، لا فرق بين قريب دان ، وبعيد قاص ، وأيضا فإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم قد نسخت ما يخالفها مما سبقها ، إذ شريعة القرآن هي المهيمنة على ما عداها ، كما قال تعالى:{ وأنزلناك إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} . وهذه الهيمنة توجب العمل بما أقره من الكتب السابقة ، وبطلان العمل بما نسخه منها الإنجيل الذي له تلك الأوصاف السابقة هو الذي لم يجر فيه التحريف ، وهو خاص بالحكم فيما قبل البعث المحمدي .
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} في هذا النص الكريم الحكم على من لم يحكم بما أنزل الله تعالى بالفسق ، أي الخروج عن جادة الحق ، والسنن المستقيم والخلق الكريم ، وكان الحكم بالفسق هنا مناسبا لمواعظ الإنجيل الذي نزل على عيسى وهدايته ، لأن تعريف القرآن الكريم له فيه إشارة إلى ما اشتمل من أخلاق روحانية قويمة ، وهداية سليمة والمناسب لمن لم يحكم به أن يكون فاسقا خارجا شاذا تاركا لمعاني الإنسانية الروحانية العالية ، وهنا بحث لفظي يتكون من عناصر ثلاثة:
أولها:أن التعبير ب "من"يدل على الجمع هنا بدليل قوله تعالى:{ فأولئك هم الفاسقون} لأن أولئك إشارة إلى الجمع ، وهم ضمير الجمع ، وكأن التعبير بالموصول للدلالة على أن الحكم الفردي كالحكم الجماعي ، فكل من تتحقق فيه الصلة ، وهو ألا يحكم بما أنزل الله تعالى يكون فاسقا آحادا أو جماعات .
ثانيها:أن المراد بالحكم يشمل حكم القضاء وحكم العمل ، فمن لم يعمل بما جاء في الإنجيل ، وهو من أهله فقد فسق عن أمر ربه .
ثالثها:أن النص يفيد أن علة استحقاقه لوصف الفسق هو أنه لا يحكم بما أنزل الله تعالى .
والحكم بالفسق شرطه ألا يكون ثمة جحود لما أمر الله وإلا كان كفرا . . اللهم ثبتنا على قول الحق والعمل به ، واكتبنا في عبادك الصالحين .