القرآن مهيمن على ما عداه
{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} وجئتيا محمَّدفي ختام الرسالات لتكون خاتم الرسل الَّذي يجمع في الكتاب ،الَّذي أنزل عليه بالحق ،في كل آياته ،كل ما يبقى من خطوط الكتاب الأول الَّذي هو التوراة في بعدها التشريعي ،والإنجيل في بُعده الروحي الأخلاقي ،ليصدقه في كل المضمون الفكري والاتجاه العملي ،باعتبار أنَّه كلمة الله المنفتحة على الحقّ كله .
وربَّما كان المراد الكتاب كله الَّذي يضم الكتب المنزلة على الأنبياء ،ومنها صحف إبراهيم وزبور داود ونحوهما ،{وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي أميناً وشاهداً عليه وحافظاً له ،فهو الَّذي يرتفع بالقيمة الأخلاقيّة والروحيّة إلى المستوى الأعلى الَّذي يصل بالإنسانمن خلالهاإلى درجة الكمال ،باعتبار أنَّه يُمثِّل الخط التصاعدي الَّذي يرافق التطوّر الإنساني في حاجاته الروحيّة والماديّة ليخطط له المنهج الَّذي يتحرك فيه في انفتاحه على الواقع بما لا يبتعد به عن المثال ،وفي توازن القيمة في العناصر الفرديّة الّتي تغذي في الإنسان ذاتيته الاجتماعيّة الّتي تحدد له مكانه في المجتمع من خلال مسؤولياته فيه ،وهكذا تتمثل الهيمنة في الحفاظ على أصالة الكتاب وإبعاده عن التحريف ،وفي صيانة القيم الّتي تضمّنها الكتاب والارتفاع بها إلى الأفق الأوسع ،والمجال الأرحب .
وجوب التزام الحق في الحكم
وعلى ضوء ذلك ،كان القرآن هو الَّذي تنطلق منه القاعدة ويتحرك معه الخط المستقيم ،ويدفع بالحكم إلى مواقع الحقّ{فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من الكتاب عليك ،لشموليته لما في الكتب السماويّة ،فلا يشعر اليهودي بغرابة الحكم الشرعي الَّذي يصدره الحاكم المسلم عليه ،لأنَّ التوراة ليست غريبة عنه ،ولا يجد النصراني أيّ إشكال في القضاء الإسلامي في القضايا الّتي يتحاكم فيها إليه ،لأنَّها لا تبتعد عن أجواء المفاهيم العامّة في الإنجيل ،{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ} فقد يحاولون أن يجتذبوا عاطفتك لبعض رغباتهم وأهوائهم وأوضاعهم الّتي لا ينطلقون فيها من كتاب ،ولا يرتكزون فيها على قاعدةٍ من الحق ،ولا بُدَّ لك من أن تكون حذراً من كل أساليبهم وإغراءاتهم ،لأنَّ المسألة ليست مسألة حالةٍ اجتماعيّة أو شخصيّة خاضعة للمجاملة ،بل هي مسألة حقّ يراد إقامته ،وباطل يراد إبطاله ،وهو خط الرسالات الَّذي يريد من الناس كلهم تحكيم الحق فيما بينهم .
المراد بالشرعة والمنهاج
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فلكل نبيٍّ شريعةٌ وطريق ،والمراد بالشرعة أو الشريعةفي الأصلالطريق الَّذي يؤدي إلى الماء وينتهي به ،وهي في هذه الآية الدين المشتمل على الحقائق والتعاليم والشرائع المؤدية إلى تطهير الإنسان من رذائله وعيوبه وانحرافاته ،فكأنَّه يسير به إلى ينبوع المعرفة الَّذي يغسل له كل قذارات الجهل والتخلّف .أمَّا المنهاج ،فهو الطريق الواضح الَّذي يوصل الإنسان إلى الهدف الكبير في دنياه وآخرته ،وهو السعادة الروحيّة والماديّة .
موقع شرعة اليهود والنصارى من شريعة الإسلام
وقد يرد هنا سؤال:
هل أنَّ هذه الشرعة أو المنهاج الَّذي جعله الله لهذه الفئة أو تلك من اليهود والنصارى يمثل امتداد اليهوديّة أو النصرانيّة كشرع ومنهج إلى مدى الزمن ،بحيث لا يكون لهاتين الفئتين أيّ دور في الشرعة الإسلاميّة لأنَّها تخص الفئة الّتي تتمثَّل بالمسلمين ،بحيث لا يكون للإسلام أيّة علاقة باليهودي والنصراني ولا يُمثِّل أيّة دعوة لهما للإيمان به ؟
والجواب عن ذلك ،أنَّ الدينفي الرسالة الإلهيّة الواحدة في خط التنوّعلا يريد أن يجعل من نفسه وسيلة من وسائل تأكيد الانقسام التاريخي الديني الّذي حوّل الأديان في أتباعها إلى طوائف مغلقة لا مسؤوليّة لإحداها بالأخرى ،بل إنَّه يعمل على توحيد الإنسان كله في أيّة مرحلةٍ زمنيّة ،أو موقعٍ مكانيّ ،على رسالة الله التي عنوانها العريض ،الممتد في كل مراحل الرسالات ،هو الإسلام لله تعالى ،لتكون كل رسالةٍ ،في دور أيّ نبيّ ،تجسيداً للإسلام ،باعتبار أنَّها كلمة الله في تلك المرحلة الّتي يمثِّل الالتزام بها معنى الإسلام في علاقة الإنسان بالله ،في الوقت الَّذي كانت فيه الرسالات المتتابعة مفتوحةً على بعضها البعض لتكمل الأخيرة ما ابتدأت به الأولى ،فكان عيسى( ع ) مكمّلاً للناموس ،وكان النبيّ محمَّد( ص ) متمماً لمكارم الأخلاق ،كتعبيرٍ عن إكمال ما نقص من التشريع في الحاجات الجديدة الّتي فرضتها تطورات الواقع الإنساني ،أو تبديل بعض الأحكام الّتي كانت خاضعةً لظروفٍ محدودةٍ على صعيد الزمان والمكان ،وأصبح من الضروري استبدالها بأحكام جديدة تتناسب مع الظروف الجديدة .وعلى ضوء هذا ،فلا نجد هناك إلغاءً من الرسالة اللاحقة للرسالة السابقة ،بل إنَّنا نلاحظ امتداداً لأيّ منها في داخل الأخرى ،وإذا كان هناك حديثٌ عن النسخ ،فإنَّه لا يشمل الرسالة كلها بل يختص ببعض أحكامها ،تماماً كما يقع النسخ في داخل الرسالة نفسها ،وذلك مثل نسخ القبلةفي الإسلاممن بيت المقدس إلى الكعبة .
وليس هناك إلغاءٌ للكتاب ،فلم يلغ الإنجيل التوراة ،ولم يلغِ القرآن التوراة والإنجيل ،بل إنَّه أوحىكما لاحظنا في الفقرات المتقدمة من الآياتبأنَّ للنبي أن يحكم بما أنزل الله فيها من أحكامه الّتي لم ينسخها في القرآن ،وهذا ما نلاحظه في الإيمان الإسلامي الَّذي يؤمن بالرسل كلهم{لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [ البقرة: 285] ،وبالكتاب كله{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [ آل عمران:119] ،في إيحاء بأنَّ الكتاب واحد في مدى الرسالة في فصول متعددة ،أو أجزاء متنوعة .وعلى هدى ذلك كله ،فإنَّنا نفهم من قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} أنَّ الخطاب فيها للأنبياء ،فلكل نبيّ شرعة ومنهاج يحرّكه في مرحلته تبعاً لحاجاته وظروف الواقع الإنساني آنذاك ،من دون أن ينفي امتداد كل شرعةٍ ومنهاج في الشرعة الأخرى والمنهاج الآخر ،وربَّما نستوحي هذا الخط الممتد في الرسالات من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[ البقرة: 62] فإنَّ فيها إيحاءً بأنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الَّذي يفرض نفسه على الإنسان من خلال أمر الله ،يشكل منطلقاً ليطلب من المؤمنينبتنوعاتهم التاريخيّةالانفتاح على كل مواقع العمل الصالح المحدّدة من الله في رسالته ،ليلتقي الجميع على الإسلام الشامل في الرسالة الواحدة الّتي تجمع الرسالات كلها في عناصرها الحيويّة في نهاية المطاف .
وربَّما يرى بعض المفسرين أنَّ الخطاب هو للأمم الثلاث ؛أمّة موسى وأمّة عيسى وأمّة محمَّد ،ولا يعني به قوم كل نبيّ ،ولا بُدَّ لنابلحاظ هذا القولمن أن نحمل المسألة على التسلسل التاريخي في مهمة كل نبيّ في رسالته في خصوصيتها الزمنيّة ،في امتدادها الزمنيّ ،وفي خطها الشمولي في انفتاحها على الرسالة الأخرى .والله العالم .
فكرة الابتلاء وتعدد الشرائع
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لجمعكم على ملةٍ واحدة في دعوة جميع الأنبياء ،لتلتقوا عليها في الرسالة الخاتمة الّتي تجمع الخطوط العامّة للرسالات كلّها ،وذلك بطريقة القدرة الحاسمة التي لا يملك فيها الإنسان اختياره في الانتماء ،{وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ} أي ليمتحنكم ،{فِى مَآ ءَاتَكُم} من تعدّد الشرائع حسب اختلاف الزمن ،ليظهر عمق الإخلاص له لدى المؤمنين ،وسطحيّة الإيمان به من المتعصبين المتخلفين ،فينجح المؤمنون بالله وكتبه ورسله ورسالاته ،ويفشل المتعصبون الَّذين يتجمدون في المرحلة الزمنيّة الّتي بعث بها رسولهم ،فلا ينفتحون على رسول آخر ورسالةٍ أخرى ،فيحيا من حيى عن بيّنةٍ ويهلك من هلك عن بيّنةٍ ،{فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} الّتي انطلقت من الله في رسالاته ،وتنافسوا في الحصول على الدرجة العليا فيها ،لأنَّ ذلك هو الَّذي يمنحكم المواقع المتقدمة في القرب من الله والوصول إلى رضوانه في مرحلة الوفادة إليه ،{إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} فيجمعكم يوم الجمع في موقف المسؤوليّة والحساب{فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور دينكم ،مما أحصاه ونسيتموه ،ليجزي الَّذين استقاموا على خط الإيمان والعمل الصالح باستقامتهم ،ويجزي الَّذين انحرفوا وابتعدوا عن الخط المستقيم بانحرافهم ،وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ،وليبادر المبادرون .