التّفسير
تشير هذه الآية إلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين .
وكلمة «مهيمن » تطلق في الأصل على كل شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه ،ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف إشرافا كاملا ،ويكمل تلك الكتب ،لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن » حيث تقول الآية: ( وأنزلنا إِليك الكتاب بالحقّ مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ...) .
فالقرآن بالإِضافة إلى تصديقه الكتب السماوية السابقة ،اشتملأيضاًعلى دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب ،فكان بذلك حافظاً وصائناً لها .
إِنّ الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادئ والهدف الواحد الذي تبنى تربية الإِنسان والسمو به إلى مراتب الكمال المعنوي والمادي ،على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإِنسان ،حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإِنسان إلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإِنساني ،وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطوراً ،والإِتيان بعبارة: ( مهيمناً عليه ) بعد جملة ( مصدقاً لما بين يديه ) يدل على هذه الحقيقة ،أي أنّ القرآن في الوقت الذي يصدّق الكتب السابقة ،يأتي في نفس الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة .
ثمّ تؤكّد على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) انطلاقاً من الحقيقة المذكورةضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس ،حيث تقول ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ...) .
وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية ،فتدلّ على شمولية أحكام الإِسلام بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأُخرى ،ولا تعارض هنا بين هذا الأمر وبين ما سبق من أمر في أية سابقة والتي خيرت النّبي محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين الحكم بين اليهود أو تركهم لحالهم ،لأنّ هذه الآية ترشد النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )إِن هو أراد أن يحكم بين أهل الكتابإلى أنّ عليه أن يحكم بتعاليم وقوانين القرآن بينهم .
ثمّ تؤكّد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب ،الذين يريدون أن يطوعوا الأحكام الإِلهية لميولهم ورغباتهم ،وأن ينفذ ما نزل عليه بالحق ،حيث تقول الآية: ( ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ ...) .
ولأجل إكمال البحث تشير الآية إلى أن كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام للحياة يهديها إلى السبيل الواضح ،حيث تقول: ( لكل جعلنا منكم شرعةومنهاجاً ...) .
وكلمة «شرع » أو «الشريعة » تعني الطريق الذي يؤدي إلى الماء وينتهي به ،واطلاق كلمة «الشريعة » على الدين لأن الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإِنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية ،أمّا كلمة «النهج » أو «المنهاج » فتطلقان على الطريق الواضح .
نقل ( الراغب ) في كتابه ( المفردات ) عن ابن عباس قوله بأنّ الفرق بين كلمتي «الشرعة » و«المنهاج » هو أنّ الأولى تطلق على كل ما ورد في القرآن ،وأن المنهاج يطلق على ما ورد في سُنّة النّبي محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( وهذا الفرق مع كونه جميلا ،إلاّ أنّنا لا نملك دليلا جازماً لتأييده ){[1060]} .
ثمّ تبيّن الآية أنّ الله لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر أُمّة واحدة ،تتبع ديناً وشرعة واحدة لقدر على ذلك ،لكن هذا الأمر يتنافى مع قانون التكامل التدريجي ،وحركة مراحل التربية المختلفة ،فتقول: ( ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ...) .
وجملة ( ليبلوكم فيما آتاكم ...) إِشارة إلى ما قلناه سابقاً من أنّ الله قد أودع لدى أفراد البشر استعدادات وكفاءات تنمو في ظل الاختبارات وفي ضوء تعاليم الأنبياء ،فعندما يطوي بنو الإِنسان مرحلة معينة ،يجعلهم الله في مرحلة أسمى وحين تنتهي مرحلة تربوية يأتي الله بمرحلة تربوية أُخرى على يد نبي آخر ،كما يحصل بالضبط للمراحل التعليمية التي يمرّ بها الشاب في مدرسته .
بعد ذلك تخاطب الآيةفي الختامجميع الأقوام والملل ،وتدعوهم إلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الاختلاف والتناحر ،حيث تقول: ( فاستبقوا الخيرات ) مؤكدة أنّ الجميع يكون مرجعهم وعودتهم إلى الله الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون: ( إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) .