سبب النّزول
نقل بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قوله: أنّ رهطاً من وجهاء اليهود تآمروا واتفقوا على الذهاب إلى النّبي محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) بغية حرفِهِ عن الإِسلام ،فذهبوا إِليه( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذكروا له أنّهم قوم من مفكري وعلماء اليهود ،وأنّهم إِن اتبعوه( صلى الله عليه وآله وسلم ) اقتدى بهم بالتأكيد بقية اليهود ،وزعموا أنّ بينهم وبين جماعة أُخرى نزاع ( في قضية قتل أو أمر آخر ) وطلبوا من النّبي محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يحكم في النزاع المزعوم لمصلحتهم ،ووعدوه أنّه إِن استجاب لأمرهم يؤمنوا به ،فامتنع النّبي محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن إِصدار حكم غير عادل ،فنزلت الآية المذكورة{[1061]} .
التّفسير
تكرر هذه الآية تأكيد الباري عزّ وجلّ على نبيّه محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أن يحكم بين أهل الكتاب طبقاً لأحكام الله ،وأن لا يستسلم لأهوائهم ونزواتهم ،فتقول: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ...) .
والتكرار للأمر هنا إمّا أن يكون بسبب المواضيع التي اشتملت عليها الآية ،وإمّا لأنّ موضوع الحكم في هذه الآية يختلف عن موضوع الحكم في الآيات السابقة ،حيث كان موضوع الحكم في الآيات السابقة هو الزنا مع المحصنة ،وموضوع الحكم في هذه الآية هو القتل أو شيء آخر .
ثمّ تحذر الآية النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )عن شرعة الحقّ والعدل ،وطالبته بأن يراقب تحركاتهم ،حيث تقول: ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إِليك ...) .
وأكّدت هذه الآية استمراراً لخطابها لنبي الإِسلام محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ هؤلاء الكتابيين إِن لم يذعنوا لحكمه العادل فإنّ ذلك يكون دلالة على أن ذنوبهم وآثامهم قد طوقتهم فحرمتهم من التوفيق ،وأنّ الله يريد أن يعاقبهم ويعذبهم بسبب بعض ذنوبهم ،حيث تقول الآية: ( فإن تولوا فاعلم إِنّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ...) .
وسبب ذكر «بعض الذنوب » لا كلّها ،قد يكون لأنّ عقاب كل الذنوب لا يتم في الحياة الدنيا بل يذوق وبال بعضها ،والباقي منها يوكّل أمرها إلى العالم الثّاني ،أي بعد الموت .
ولم تصرّح هذه الآية بنوع الذنوب التي طوقت وأحاطت بهؤلاء ،ويحتمل أن تكون إِشارة إلى المصير الذي أحاط بيهود المدينة ،بسبب الخيانات المتوالية التي مارسوها ،ممّا اضطرهم إلى ترك بيوتهم ومغادرة المدينة المنورة ،أو أن يكون فشل هؤلاء وحرمانهم من التوفيق نوعاً من العقاب لهم على ذنوبهم السابقة ،لأنّ الحرمان من التوفيق يعتبربحد ذاتهنوعاً من العقاب ،أي أن الذنوب المتتالية والعناد والإِصرار على الذنب ،جزاؤهما الحرمان من الأحكام العادلة ،والتورط بالضّلال والحيرة متاهات الحياة .
وتشير الآية في النهاية إلى أنّ إِصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على باطلهم يجب أن لا يكون باعثاً للقلق عند النّبي ،لأنّ الكثير من الناس منحرفون عن طريق الحق ،أي أنّهم فاسقون ،حيث تقول الآية: ( وإنّ كثيراً من الناس لفاسقون ) .
سؤال:
يمكن أن يعترض البعض بأنّ هذه الآية توحي باحتمال صدور الانحراف عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،والعياذ بالله ،وأن الله يحذره من ذلك ،فهل أنّ هذا الأمر يتلاءم ومنزلة العصمة التي يتمتع بها النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
الجواب:
إِنّ العصمة لا تعني مطلقاً استحالة صدور الخطأ من المعصوم ،ولو كان كذلك لما بقيت لهم مكرمة أو فضل ،ومعنى العصمة هو أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمّة( عليهم السلام ) مع وجود احتمال صدور الذنب أو الخطأ منهم إِلاّ أنّهم لا يرتكبون الذنب أبداً وإن كان عدم ارتكاب الذنب من قبل المعصوم ناشىء عن التنبيه والتحذير والتذكير الإِلهي للمعصوم ،أي أن التنبيه الإِلهي يعتبر جزءاً من عامل العصمة لدى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )والذي يحول دون ارتكاب الخطأ ،وسنبادر إلى توضيح موضوع العصمة لدى الأنبياءبتفصيل أكثرعند تفسير آية التطهير ( الآية 33 من سورة الأحزاب بإذن الله ) .