مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول للواحدي ،قال ابن عباس: إنَّ جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمَّد عليه الصلاة والسلام ،لعلَّنا نفتنه عن دينه ،فأتوه فقالوا: يا محمَّد ،قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم ،وأنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولن يخالفونا ،وإن بيننا وبين القوم خصومةً ونحاكمهم إليك ،فتقضي لنا عليهم ،ونحن نؤمن بك ونصدقك ،فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم ،فأنزل الله تعالى فيهم{وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ ما أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} في نداءٍ تأكيديّ لتقرير المبدأ وتعميق المسؤوليّة في كل الموارد الّتي يختلفون فيها ،ويتحاكمون إليك في حلّها ،وإعطاء الحكم الحاسم فيها ،{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} لأنَّك تُمثِّل الحقّ في الرسالة الّتي أنزلها الله لتحرّك الإنسان في مسيرة الحقّ بامتداده في الزمن كله والإنسان كلّه ،لأنَّ الله هو الحقّ الَّذي خلق السماوات والأرض بالحقّ ،ويريد للإنسان أن ينسجم مع الوجود كله في قيامهفي الأرضفي حياته الفرديّة والجماعيّة على أساس الحقّ ،فلا مجال للخضوع للحالات العاطفيّة الّتي تستجيب لرغبة هذا لمصلحةٍ هنا ،أو تبتعد عن ذاك لمشكلةٍ هناك ،أو لإغراء يندفع في أحلامٍ وتمنياتٍ ووعودٍ ببعض المكاسب الصغيرة والكبيرة ،فقد أرسلك الله لتركز للنَّاس أهواءهم على أساس رضى الله لا على أساس السقوط أمام تأثيراتها العاطفيّة في وجدانك الشخصي ،فإنَّك لا تملك نفسك ،ولكن رسالتك هي الّتي تؤكد حركتك مع النَّاس كلهم .
تحذيرٌ للرسول من مغبة الافتتان
{وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ،وذلك بالمراقبة الدائمة لكل الخلفيات الّتي تكمن وراء كلماتهم وحركاتهم ،والدراسة العميقة للتطلعات الّتي يتطلعون إليها في مواقفهم من الرسالة والرسول ،والمتابعة الواعية لكل الخطط الّتي خططوها أو يخططونها للوصول إلى غاياتهم الشريرة ،لأنَّهم لا يريدون بك وبالرسالة خيراً ،انطلاقاً من عصبيتهم للباطل واستعلائهم على النَّاس .
إنَّ من واجب الرسول الداعية إلى الله ،العامل في سبيل هداية النّاس إلى الحقّ وشموليّة سلطة الله على الواقع كله ،أن يأخذ بكل أسباب الحذر في حركته في الساحة العمليّة ،لأنَّ الآخرين يخططون ويتآمرون ويتلوّنون بألوان مختلفة ،ليحصلوا على مآربهم وليبتعدوا بالرسول وبالداعية عن الحق الَّذي أنزل من الله ،ببعض الأساليب الخادعة والوسائل المغرية ليفتنوه عن دينه وليقترب منهم ومن باطلهم .
الآثار الاجتماعية للذنوب
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا عن القبول بالحقّ الَّذي تقضي به ،أو رفضوا التحاكم إليك ،فلا تحزن ولا تأس عليهم ،ولا تسقط أمام انفعالات الإحباط من خلال سلبيات الواقع ،لأنَّ المسألة ليست مسألة فشلك في حركة الدعوة بالحقّ ،ولكنها مسألة انحرافهم الذاتي والفئوي عن رسالة الله ،وابتعادهم عن مصالحهم الحقيقيّة في السير على خط العدالة في حكم الله والرسول ،ما يؤدي بهم إلى الكثير من المشاكل الّتي تصيبهم في كلِّ مواقع حياتهم الخاصة والعامّة ،فإنَّ ذلك هو سنة الله في خلقه إذا انحرفوا وابتعدوا عن الحق .
{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} ،ويعاقبهم عليها في الدنيا من خلال الارتباط العضويّ بين الأفعال السيئة وعناصرها السلبيّة بحسب العلاقة بين المقدمات والنتائج ،فإنَّ الذنب يختزن في داخله السلبيّة الّتي تصيب صاحبه ،فتتعبه في حياته وتعقّد له أموره ،وتوقعه في الكثير من المشاكل ،وتؤدي به إلى المزيد من الخسائر ،وهذا ما حدث لليهود الَّذين تتحدث عنهم هذه الآيات في تعاملهم مع النبيّ( ص ) وخيانتهم له ونقضهم لعهودهم معه ،وتحريك الفتنة بين المسلمين ،وغير ذلك من الذنوب الّتي تفصلهم عن المجتمع ،وتعزلهم عن قضاياه ،وتباعد بينهم وبينه في المصالح المشتركة الّتي تقرّب النَّاس إلى بعضهم البعض .
وفي ضوء هذا ،نعرف كيف تحدث الله عن إصابتهم ببعض ذنوبهم ،لأنَّ القضيّة قد لا تكون عقاباً من الله لهم بشكلٍ مباشر ،بل القضيّة هي العقاب الذاتي الَّذي يكمن في داخل الذنب مما يحدث للخاطئين في الدنيا من خلال أعمالهم ،كما جاء في قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [ الروم: 41] ،فإنَّ الله يتحدث عن الاختلال في النظام الاجتماعي للنَّاس بسبب كسبهم السيئات الّتي تحمل في داخلها عناصر الفساد الَّذي يصيب العاملين به ،فيذوقون النتائج السيئة الكامنة في داخل أعمالهم ،كحقيقةٍ واقعيّةٍ في علاقة العمل السيىء بالنتيجة السلبيّة في حياة الإنسان ،{وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} خارجون عن خط الحقّ إلى متاهات الباطل في إصرارهم على الانحراف عن الرسالة والرسول ،ما يجعلهم في موقع الفسق العملي الَّذي يخرج به الإنسان عن قاعدة التوازن في الحياة .
وقد يرد هنا سؤال:
لماذا هذا التحذير للنبيّ( ص ) وهو المعصوممن أن يفتنه الآخرون عن بعض ما أنزل الله إليه ،والنهي له عن اتباع أهوائهم ؟
فهل كان النبيّ محمَّد( ص ) في الموقع الَّذي يمكن فيه أن يتبع أهواء هؤلاء اليهود ،أو أن يفتنه هؤلاء عن دين الله ؟
والجواب: إنَّ هذه الآيةوالآيات المماثلة في القرآنلا تتحدَّث عن الحالة الشخصيّة للنبيّ( ص ) في اهتزازها بالعناصر الضاغطة الّتي يحركها هؤلاء ،وفي انفعالها وتأثرها بالإغراءات والأساليب الحميمة الّتي يثيرونها في وجدانه ،بل هيوالله العالمواردةٌ في تصوير الواقع الموضوعي في الوسائل والأساليب الّتي يحرّكها هؤلاء في ساحته ،مما يخططون فيه لإخضاعه لأهوائهم ولفتنته عن بعض ما أنزل الله إليه ،بما تشتمل عليه من الضغوط الهائلة الّتي تزلزل الإنسان العادي الَّذي لا يملك قاعدة نفسيّة من العصمة الروحيّة المانعة عن الاهتزاز والانحراف ،ما يجعل النهي عن اتباع أهوائهم ،والتحذير من فتنتهم ،مرتبطين بالمسألة الموضوعيّة في العناصر المثيرة الّتي يوجهونها إليه ،لا بالحالة الذاتيّة الّتي يعيشها في وجدانه الرسالي الَّذي يملك القوّة الّتي لا تضعف أمام التحديات .