التفسير:
49- وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ...أي: إن جاءوك لتحكم بينهم فأردت أن تحكم ؛فليكن حكمك طبقا لما أنزل الله عليك لا طبقا لما تهواه أنفسهم أو طبقا لما في كتبهم من التحريف .
روى ابن جرير وابن أبي حاتم ،عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في كعب ابن أسد ،وعبد الله بن صوريا ،وشاس بن قيس وغيرهم ،فقد قالوا فيما بينهم: اذهبوا إلى محمد ،لعلنا نفتنه عن دينه ،فاتوه فقالوا: يا محمد ،إنك قد عرفت أننا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم ،وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ،وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ،ونؤمن لك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله الآية: ولا تتبع أهواءهم .التي يسيرون عليها ويتبعون طريقها ؛فإنها أهواء زائغة باطلة .
وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ .واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلنا إليك ولو كان أقل قليل ،بان يصوروا لك الباطل في صورة الحق أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذي يناسب شهواتهم .
وقد كرر سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم وجوب التزامه في أحكامه بما أنزل الله ؛لتأكيد هذا الأمر في مقام يستدعي التأكيد ؛لان اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته- صلى الله عليه وسلم- وإغرائه بالميل إلى الأحكام التي تتفق مع أهوائهم .
وإعادة: ما أنول الله إليك .لتأكيد التحذير ،بتهويل الخطب إذا تمكنوا من صرفه عن ذلك .
فَإِن تَوَلَّوْاْ .أي: أعرضوا فن قبول الحق المنزل ،وأرادوا غيره ،مما يتفق مع أهوائهم .
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ .ألا وهو ذنب التولي والإعراض عن حكم الله والرغبة في خلافه .
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي:
فاعلم أن حكمة الله قد اقتضت أن يعاقبهم بسبب هذه الذنوب متى اقترفوها بتوليهم عن حكم الله وإعراضهم عن وانصرافهم عن الهدى والرشاد إلى الغي والضلال ؛لان الأمة التي لا تخضع لأحكام شرع الله وتسير وراء لذائذها ومتعها وشهواتها وأهوائها الباطلة لابد أن يصيبها العقاب الشديد يسبب ذلك .
وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ .اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ومتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه مخالفيه ولاسيما اليهود .
أي: وإن كثيرا من الناس لخارجون عن طاعتنا ،ومتمردون على أحكامنا ،ومتبعون لخطوات الشيطان الذي استحوذ عليهم ،وإذا كان الأمر كذلك فلا تبتئس يا محمد عما لقيته من أصحاب النفوس المريضة ،بل اصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم .