الحكم حكمان: حكم الجاهلية وحكم الله
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي يريدون منك إصداره في القضيّة الّتي تحاكموا إليك فيها ،وهمفي أجواء الآيةاليهود الَّذين كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ كما في قصة أسباب النزول ،بحيث كان للمركز الاجتماعي للشخص دور كبير في طبيعة الحكم الصادر له أو ضده ،تبعاً للامتيازات الطبقيّة والأهواء الذاتيّة أو الفئويّة ،بعيداً عن حكم الله في التوراة الَّذي أكده الإسلام في القرآن والسنَّة ،وهو الحكم العادل الَّذي ينظر إلى طبيعة القضيّة من خلال عناصر الإثبات فيها ،من دون الالتفات إلى طبيعة الشخص في دائرتها الواقعيّة ،وهذا ما يشعر فيه النَّاس بالأمن على حقوقهم وقضاياهم ،لأنَّهم متساوون أمام الشريعة في ساحة الواقع والقضاء ،{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} في عناصره الحيّة من حيث انسجامه مع المصلحة الإنسانيّة في صعيد القيم الروحيّة والأخلاقيّة والحاجات الحيويّة للإنسان ،مما يفرض الخضوع له ،والانفتاح عليه ،والثقة به ،{لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالعدالة الإلهيّة في الحكم والتشريع من موقع إيمانهم بالربوبية المطلقة لله الّتي ترعى كل المخلوقين بالحكمة واللطف والرحمة على صعيد العدل الَّذي ينطلق من الجانب الموضوعي للمسألة في الواقع الإنساني العام ،من دون تفريقٍ بين قويٍّ وضعيف وكبير وصغير وغنيّ وفقير ،لأنَّ الجميع عباده ،فلا حاجة لديه إلى أحد دون أحد ليظلم هذا أو ذاك ،فإنَّ الظلم شأنُ الضعيف الَّذي يعيش الضعف أمام الآخر والخوف منه فيلجأ إلى ظلمه ،والله هو القويّ القادر على كل شيء .
وقد ورد في أكثر من حديثٍ التأكيد على حكم الله في مقابل حكم الجاهليّة ،فقد ورد الحديث عن الإمام جعفر الصادق )ع( أنَّ رسول الله( ص ) قال: «الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهليّة ،فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهليّة » .
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: «قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ): أبغض النَّاس إلى الله مبتغٍ في الإسلام سنّة جاهليّة ،وطالب امرىء بغير حقّ ليريق دمه » .
ونستفيد من ذلك أنَّ الجاهليّة ليست مرحلةً زمنيّةً تتمثَّل في شرائعها وعاداتها وتقاليدها وأحكامها ،بل هي نهج في الخط الفكريّ الَّذي يتحرّك في كل قضاياه وأوضاعه بعيداً عن الله بحيث لا يستهدي الله في ذلك ،ولا يخضع لرسالاته ورسله ،بل ينطلق في تشريعاته وأحكامه من العوامل الذاتيّة ،ومن المواقع السلطويّة الّتي تفرض نفسها على النَّاس بالقوّة من دون أن تملك أيّة شرعيّة في مواقعها وتحرّكاتها .
وعلى ضوء ذلك ،فإنَّ النظرة الإسلاميّة تؤكد أنَّ أيّ حكم في المجال التشريعيّ أو القضائيّ لا ينسجم مع حكم الله هو حكم الجاهليّة ،ولو كان صادراً في العصر الحاضر ،فإنَّ كلمة الجاهليّة تتحوّلمن خلال هذه النظرةإلى ذهنيّة ماديّة متحركةٍ مع الواقع المادي في الحياة في الاتجاه الَّذي لا يجد للدين أيّ دورٍ في أحكامه وقضاياه ،تماماً كما لو لم يكن موجوداً في حياة النَّاس .
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في موردٍ آخر في تعبير آخر وهو حكم الطاغوت ،وذلك قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَلاً بَعِيداً}[ النساء: 60] .وفي ضوء ذلك ،يمكن لنا أن نواجه كل الواقع التشريعي الوضعي الَّذي يتحرّك في بلاد المسلمين في خط العلمانيّة لنعتبره داخلاً في حكم الجاهليّة أو حكم الطاغوت ،وخارجاً عن حكم الله وعن ولايته ،وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يحذروا منه ،وأن يلتفتوا إلى الموقف الَّذي يجب أن يتخذوه ويلتزموه في رفضهم وتأييدهم ،لا سيّما في المشاركة في المجالس النيابيّة بتأييد الَّذين يعيشون ذهنيّة الجاهليّة في أحكامها وقوانينها لا ذهنيّة الإسلام .
ماذا نستوحي من هذه الآيات ؟
وقد نستوحي من هذه الآيات بعض اللمحات الفكريّة والعمليّة الّتي تفيدنا في حركة العمل الإسلامي في الدعوة إلى الله:
أولاً: إنّا نأخذ من هذه الآيات النموذج الحي للنَّاس الَّذين يقفون ضد العاملين في سبيل الله ويعملون على إقامة الحواجز النفسيّة والماديّة ضد التحرك الإيماني ،سواء كانوا من الَّذين يختلفون معنا في الدين ،أو من الَّذين لا يدينون بأي دين ،بل يلتزمون الإلحاد كمنهج للحياة ،أو من الَّذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ،لنتخذ منهم الموقف الَّذي أراد الله لرسوله أن يتخذه من معاصريه من هؤلاء ،فلا نضعف ولا نهون أمام كل الأوضاع السلبيّة الّتي نواجهها منهم ،بل نتعامل معهم وفق قاعدة التعامل الواقعي الّتي تقتضي الانتباه جيداً لكل وسائلهم وأوضاعهم ،في كل ما يريدون إثارته في الساحة من قضايا ومواقف ،لنضع الأمور في نصابها الصحيح ،ولنكون في وعيٍ دائمٍ لكل ما يحيط بنا من أمور وأوضاع ،وبذلك تتحول هذه الأيام إلى حركةٍ متنوعة الاتجاهات في طريق العمل الإسلامي الطويل ،فلا تقتصر على الوقائع والفئات في حدود الزمان والمكان اللذين عاشا في داخل التاريخ .
ثانياً: إنَّ هذه الآيات تؤكد ما في الكتب المنزلة من حقيقةٍ فكريّةٍ وتشريعيّة ،وتعتبر الانسجام مع تلك الحقيقة أساساً للخط الإيماني الصحيح في مسيرة الإنسان ،ما يوضح القاعدة الصلبة للشخصيّة الإيمانيّة الّتي ترتكز على المنهج في الفكر ،وعلى الخط في السير ،سواءٌ في ذلك الَّذين يتبعون التوراة أو الإنجيل أو القرآن ،وتؤكدفي بعض لمحاتهاعلى تداخل هذه الكتب في مفاهيمها العامة وآفاقها الواسعة ،بحيث لا يعتبر الإيمان بكتاب ،منافياً ،في إيحاءاته الفكريّة والعمليّة ،للإيمان بالكتب الأخرى ،لأنَّ الخصوصيات الّتي تختلف فيها هذه الكتب لا تمسّ الخطوط العامّة ،بل تمس التفاصيل الّتي أوضحت هذه الكتب على أنَّها قد تتغيّر وتتبدّل تبعاً للحاجات الّتي يفرضها عامل الزمان ،مما ينتهي فيه حدّ المصلحة الباعثة إلى الحكم تارة ،أو مما تتبدّل فيه المفسدة إلى مصلحة أخرى .وعلى ضوء هذا ،كانت الدعوة إلى أن يحكم أهل الإنجيل والتوراة والقرآن بما فيه من الحقّ ،لأنَّ ذلك هو الَّذي يلتقي عليه الجميع ،فيكون الابتعاد عنه ظلماً وفسقاً وكفراً ،ولهذا كان الإلزام القرآني لكل فريقٍ من الفرقاء الَّذين ينتمون إلى هذا الكتاب أو ذاك ،بالمعاني الّتي يلتزم بها الكتاب ،لأنَّ كل واحدٍ منها يمهّد الطريق للآخر ويدعمه في كل الجوانب الحيّة فيه .
ثالثاً: إنَّ على الدعاة لله والعاملين في سبيله ،أن يكونوا في حالة حذرٍ دائمة ورصد مستمر لكل الأساليب الملتوية الّتي يحاول دعاة الكفر وأولياؤهم أن يضللوا بها المؤمنين عن دينهم ،في ما يثيرونه حولهم من الأجواء المحمومة الّتي تثير المشاعر وتهز النفوس ،أو في ما يحشدونه من المعلومات الكاذبة الّتي يريدون من خلالها توجيه الأمور في غير وجهتها الصحيحة ،لينحرفوا بالحكم عن الحقّ ،وذلك من أجل اكتشاف اللعبة الملتوية المزخرفة الّتي تتمثل في أكثر من أسلوب ،وأكثر من وجه .
رابعاً: إنَّ الحكم حكمان ؛حكم الجاهليّة ،وهو الحكم الَّذي يرتكز على الباطل ويبتعد عن وحي الله ،مما يصنعه البشر لأنفسهم انطلاقاً من مصالحهم ومنافعهم وأنانيتهم ،بعيداً عن الله ؛وحكم الله الَّذي شرعه لعباده في ما أوحى به لرسله ،مما ينسجم مع مصالح الإنسان كإنسانٍ بعيداً عن كل الخصوصيات الّتي ترهق إنسانيته وتعطل مسيرته نحو الخير .ولا بُدَّ لنا من الدخول في عمليّة المقارنة دائماً بين هذين الحكمين ،ليبقى النَّاس على وعيٍ عميقٍ منفتحٍ بما يمثله حكم الله من خير وبركة ورحمة للإنسان وللحياةكما توحي به الآية الأخيرةوليبقى الهاجس الَّذي يعيش في همّ المجتمع من أجل تأكيد استمراره في حركة الحياة في ما يحكم به الحكام ،وفي ما يطبقه النَّاس ،من أجل حفظه ورعايته وإصابته ،وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق( ع ):"إنَّ الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهليّة ،ثُمَّ قال:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} قال: فأشهد أنَّ زيداً قد حكم بحكم الجاهليّة ،يعني في الفرائض "