وقد استنكر سبحانه فعل الفاسقين ، ولو كانوا كثرة كاثرة ، فقال تعالت كلماته:{ أفحكم الجاهلية يبغون}
/م49
هذا استفهام إنكاري توبيخي ، أي أنه إنكار للواقع الذي يقع من الفاسقين عن أمر ربهم ، وعن الحكم الذي يحكم به الله تعالى ، والفاء هنا هي التي تفصح عن شرط مقدر ، أي إذا كانوا يخرجون فهم يبغون حكم الجاهلية وقدمت الهمزة على الفاء ، لأن الاستفهام له الصدارة في الذكر دائما ، ولو كان استفهاما إنكاريا لاستنكار الواقع ، وسوق الكلام بشكل الاستفهام الإنكاري فيه تأكيد لمعنى ابتغائهم حكم الجاهلية ، ثمة تأكيدان آخران لارتضائهم الحكم الجاهلي:أولهما تقديم المفعول على الفعل ، وفي ذلك إشارة إلى أنهم بإعراضهم عن حكم القرآن لا يبتغون ولا يريدون إلا الحكم الجاهلي ، أي أنه لا يخضع الشخص إلا لأحد نوعين من الحكم حكم القرآن ، والثاني حكم الجاهلية وقد يقال:بينهما ثالث ، وهو حكم العقل والقسطاس ، ونقول:إن من يبني حكم العقل والقسطاس لا يمكن أن يتولى عن حكم القرآن ، إنما يتولى عن حكم القرآن من يريد حكم الهوى والشهوة ، وحكم العقل وحكم الشهوة نقيضان لا يجتمعان .
والتأكيد الثاني لارتضائهم حكم الجاهلية هو التعبير عن رضاهم عنه بقوله تعالى:{ يبغون} ، لأن البغي هو الطلب بشدة تؤدي إلى الظلم .
وإنه لا وسط بين حكم الجاهلية وحكم القرآن لأن حكم القرآن هو العدل وهو النظام وهو المساواة في الحقوق والواجبات ، لا يعفى من حكمه شريف ، ولا حاكم وليس فيه من ذاته مصونة لا تمس ، بل الجميع أمام الله تعالى على سواء ، وأما حكم غير القرآن ففيه التفاوت بالطبقات ، وفيه السيطرة التي لا يسوغها منطق ولا عدل ، ولا نظام وفيه أكل أموال الناس بالباطل كالربا وسائر أنواع السحت ، وقد قال بعض التابعين:من حكم بغير الله فهو حكم الجاهلية .
وقد جاء في التفسير الأثري لابن كثير المحدث والمؤرخ ما نصه:
"ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء ، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، كما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم "الياسق"، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية ، والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله . . .
وما أشبه "الياسق"، الذي وضعه جنكيزخان ب "قانون نابليون"وما جاء بعده من قوانيننا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير .
{ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} الاستفهام هنا إنكاري فيه إنكار للوقوع ، أي أنه بمعنى النفي المؤكد كأنه استفهم عن أن يكون ثمة من هو أحسن حكما من الله ، فأجيب بالنفي المؤكد الذي لا يتصور فيه أن يكون من هو أحسن حكما ، والمعنى لا أحد أحسن حكما من الله لقوم يوقنون ، وهنا يرد سؤال هو لقد ذكر أنه لا أحد أحسن حكما من الله لقوم يوقنون ، مع أنه سبحانه أحسن حكما لمن يوقنون ومن لا يوقنون ، إذ هو العدل والمصلحة ، وبها ينتفع البر والفاجر ، والسليم والسقيم فهو الخير الوارف الظلال ، فلماذا القيد بقوله تعالت كلماته:{ لقوم يوقنون} ؟ والجواب عن ذلك يتكون من جزءين:أولهما أن أولئك هم الذين ينتفعون به ، فكان الأحسن لهم والأقوم ، أما غيرهم فهم قوم بور ، وهم في غيهم يعمهون .