فَرّعت الفاء على مضمون قوله:{ فإن تولّوا فاعلم}[ المائدة: 49] الخ استفهاماً عن مرادهم من ذلك التولّي ،والاستفهام إنكاري ،لأنّهم طلبوا حكم الجاهليّة .وحكم الجاهليّة هو ما تقرّر بين اليهود من تكايُل الدّماء الّذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب ،وهم أهلُ جاهلية ،فإنّ بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدّم ؛وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية ،وهو العدول عن الرجم الّذي هو حكم التّوراة .
وقرأ الجمهور{ يَبغون} بياء الغائب ،والضمير عائد ل{ مَن} من قوله:{ ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله}[ المائدة: 47] .وقرأ ابن عامر بتاء الخطاب على أنّه خطاب لليهود على طريقة الالتفات .
والواو في قوله:{ ومن أحسن من الله حكماً} واو الحال ،وهو اعتراض ،والاستفهام إنكاري في معنى النفي ،أي لا أحسن منه حكماً .وهو خطاب للمسلمين ،إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا .
وقوله:{ لقوم يوقنون} اللام فيه ليست متعلّقة ب{ حكماً} إذ ليس المراد بمدخولها المحكومَ لهم ،ولا هي لام التّقوية لأنّ{ لقوم يوقنون} ليس مفعولاً ل{ حُكماً} في المعنى .فهذه اللامُ تُسمّى لام البيان ولام التبيين ،وهي الّتي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبراً أم إنشاء ،وهي الواقعة في نحو قولهم: سَقْيَاً لك ،وَجَدْعاً له ،وفي الحديث «تبّاً وسُحقاً لمن بَدّل بَعْدي» ،وقوله تعالى:{ هيهات هيهات لِما توعدون}[ المؤمنون: 36]{ حاش لله}[ يوسف: 51] .وذلك أنّ المقصود التّنبيه على المراد من الكلام .ومنه قول تعالى عن زليخا{ وقالت هيتَ لك}[ يوسف: 23] لأنّ تهيّؤَها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له{ هيت لك}[ يوسف: 23] ،إذا كان ( هيت ) اسمَ فِعْلِ مُضي بمعنى تهيّأتُ ،ومثل قوله تعالى هنا:{ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} .وقد يكون المقصود معلوماً فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو{ حاشَ لله}[ يوسف: 51] ،وهي حينئذٍ جديرة باسم لام التبيين ،كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم: سَقياً لك ورعياً ،ونحوهما ،وفي قوله:{ هِيتَ}[ يوسف: 23] اسمَ فعل أمر بمعنى تَعالَ .وإنّما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية ،لأنّ لام التّقوية يصحّ الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها ،وَفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلاّ معها .