{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} أي في التوراة{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فمن قتل نفساً كان لوليه أن يقتله به قصاصاً ،{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} فمن قلع عين شخص كان له أن يقلع عينه ،{والأنفَ بالأنف} فمن قطع أنف إنسانٍ كان له الحقّ أن يقطع أنفه ،{وَالأذُنَ بِالأذُنِ} فمن قطع لأحدٍ أذنه كان من حقِّه أن يقطع له أذنه ،{وَالسِّنَّ بِالسنِّ} فمن قلع سنَّ إنسانٍ فله أن يقلع سنه ،{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي ذات قصاص ،والمراد به حقّ المقاصة في كل ما يمكن فيه ذلك مما يتحقق فيه المساواة بدقةٍ مثل الشفتين والذكر والأنثيين واليدين والرجلين وغيرهما ،ويجري هذا التماثل في القصاص بالجراحات: «الموضحة بالموضحة » ،وتسمّى الواضحة من الشجاج التي بلغت العظم فأوضحت عنه ،والهاشمة بالهاشمة «الّتي هشمت العظم فتشعب وانتشر وتباين فراشه وهي قشوره الّتي تكون على العظم دون اللحم » ،والمنقلة بالمنقلة «الّتي تنقل العظم أي تكسره .ولا قصاص في الضربة المأمومة والجائفة ،وهي الّتي تبلغ أم الرأس ،والّتي تبلغ الجوف في البدن » ،لأنَّ القصاص قد يؤدي إلى هلاك النفس لصعوبة التحديد الدقيق في القصاص .
وجاء في مجمع البيان: «وأمَّا ما لا يمكن القصاص فيه من رضة لحم ،أو فكة عظم ،أو جراحة يخاف معها التلف ،ففيه أروش مقدرة » .وقد أقرَّ الإسلام هذه الشريعة التوراتية التي لا تميز بين النَّاس في القصاص ،فالشريف والوضيع سواء أمام القانون ،وبالتالي لا طبقية في التشريع الإلهي ،ولذا كل من يقترف جريمةً يؤاخذ بمثل عدوانه من دون زيادةٍ أو نقيصة .
وهذا ما يحمي الضعفاء الَّذين يتعرضون للقهر من قبل الأقوياء ،فإنَّ الإسلام يؤاخذهم بمثل ما ارتكبوا ،وقد جاء عن الإمام عليّ( ع ): «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له ،والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه » .
التشديد في القصاص لحفظ الأمن الاجتماعي
وإذا كان البعض يرى في تشريع القصاص قسوةً وتشديداً ،فإنَّ الإسلام يريد لهم أن يفكروا بالنتائج الإيجابيّة الّتي يحصل عليها المجتمع في استقراره وسلامه وأمنه وطمأنينة أفراده من هذه التشريعات ،ليقارن بينها وبين النتائج السلبيّة الّتي يتعرّض لها النّاس من خلال إهمال القصاص ،في الاهتزاز الاجتماعي ،وفي الخوف والقلق والخطر الَّذي يتعرّض له الأفراد والمجتمعات مما قد يؤدي إلى الهلاك والفساد .
إنَّ مشكلة الكثيرين من النَّاس في حكمهم السلبي على الشرع الإسلامي أنَّهم ينظرون إلى الأمور من جانبٍ واحدٍ ولا يدرسونها من جميع الجوانب ،ليعرفوا كيف يحركونها في موقع العقل الَّذي يوازن بين المصالح والمفاسد والحسن والقبح في دراسته للأمور ،لا في مواقع العاطفة الّتي تنفتح على السطح في المشاعر والأحاسيس من دون تدقيقٍ بالنتائج .
العفو كمبدأ للعلاقات الإنسانية
ويبقى للمعتدى عليه الحقّ في العفو عن المعتدي في عدوانه ،انطلاقاً من السموّ الروحي الَّذي يرتفع فيه الإنسان عن مستوى الثأر لنفسه ،أو من الواقع الاجتماعي الَّذي يفرض عليه التنازل عن حقِّه ،أو من المصالح الخاصة أو العامّة الّتي تدفعه إلى ذلك ،أو من الشفاعة الّتي يقوم بها بعض الأشخاص القريبين إليه لمصلحة المسيء لاعتباراتٍ خاصةٍ أو عامة ،وهكذا أراد الله أن يمنح هذا النوع من التنازل عن الحقّ عنوان الصدقة الّتي يستحق بها الثواب عند الله في الحصول على الحسنات والعفو عن السيئات ،تشجيعاً لهذه المبادرة الإنسانيّة بالعفو{فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} أي بالقصاص الَّذي هو حقّ له{فَهُوَ} أي التصدّق به ،{كَفَّارَةٌ لَّهُ} عن ذنوبه .وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق( ع ) في ما رواه الكافي بإسناده إلى الحلبي قال: سألته عن قول الله عزَّ وجلّ:{فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال: «يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره » ،وربَّما كان تأثير العفو من الناحية النفسيّةفي السمو الروحي للعافي ،وفي الانفتاح الإنساني على الندامة لدى المعتدي ،إشارةً واضحةً على ضرورة إقامة العلاقات الإنسانيّة على الإحسان ،لمردوده الخيّر على الحياة .
ظلم الحاكم أخطر من ظلم المحكوم
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الَّذين يساهمون في تعميق واقع الظلم في النَّاس ،بالامتناع عن الحكم بمعاقبة الظالم ،مما يشارك في امتداد الظلم في المجتمع من خلال إعطاء الحريّة للمعتدي أن يتحرّك في عدوانه بكل حريّة من دون خوف من عقاب .
ونلاحظفي هذا المجالأنَّ ظلم الحاكم الَّذي لا يحكم بما أنزل الله من الحقّ والعدل ،أكثر خطورةً من ظلم المعتدي ،لأنَّ المعتدي يتحرّك في ظلمه من الموقع الفردي الخاص في الجريمة الّتي ارتكبها ،أمّا الحاكم ،فإنَّه يقوّي الظلم في المجتمع كله في مبادرات الظالمين من خلال منعه عن الحكم على الظالم لمصلحة المظلوم ،ما يؤدي إلى انتشار الظلم في النَّاس ،حيث يزداد الظالمون قوّةً وجرأةً على الظلم ،ويزداد المظلومون ضعفاً وسقوطاً بفعل الواقع الظالم الَّذي لا يملكون له دفعاً من ناحية ضعفهم ،ومن ناحية الحكم الَّذي يقف ضدهم لمصلحة الظالمين .