القول في تأويل قوله عز ذكره:وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك، يا محمد، وعندهم التوراة فيها حكم الله.
ويعني بقوله:"وكتبنا "، وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النَّفس إذا قتلت نفسًا بغير حق (83) ="بالنفس "، يعني:أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة، ="والعين بالعين "، يقول:وفرضنا عليهم فيها أن يفقأوا العين التي فقأ صاحبها مثلَها من نفس أخرَى بالعين المفقوءة= ويجدع الأنف بالأنف= وتقطع الأذن بالأذن= وتقلع السنّ بالسنّ= ويُقْتَصَّ من الجارِح غيره ظلمًا للمجروح. (84)
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود= وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته، وإدباره عنه بعد إقباله= وتعريفٌ منه له جراءتهم قديمًا وحديثًا على ربِّهم وعلى رسل ربِّهم، وتقدُّمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل.
يقول تعالى ذكره له:وكيف يرضى هؤلاء اليهود، يا محمد، بحكمك، إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرُّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم، فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين، وقضائي بينهم أن من قتَل نفسًا ظلمًا فهو بها قَوَدٌ، ومن فقأ عينًا بغير حق فعينه بها مفقوءة قِصَاصًا، ومن جدع أنفًا فأنفه به مجدوع، ومن قلع سنًّا فسنّه بها مقلوعة، ومن جرح غيره جرحًا فهو مقتصٌّ منه مثل الجرح الذي جرحه؟= ثم هم مع الحكم الذي عندهم في التوراة من أحكامي، يتولون عنه ويتركون العمل به، يقول:فهم بترك حكمك، وبسخط قضائك بينهم، أحرَى وأولَى.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12064 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال:لما رأت قريظة النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم، وكانوا يخفونه في كتابهم، نهضت قريظة فقالوا:يا محمد، اقضِ بيننا وبين إخواننا &; 10-360 &; بني النضير= وكان بينهم دمٌ قبلَ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت النضير يتعزَّزون على بني قريظة، ودياتهم على أنصاف ديات النضير، وكانت الدِّية من وُسُوق التمر:أربعين ومئة وسق لبني النضير، وسبعين وسقًا لبني قريظة= فقال:دمُ القرظيّ وفاءٌ من دم النضيريّ! (85) فغضب بنو النضير وقالوا:لا نطيعك في الرَّجم، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنَّا عليها! فنـزلت:أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ[سورة المائدة:50] ونـزل:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس "، الآية.
12065 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص "، قال:فما بالهم يخالفون، يقتلون النفسين بالنفس، ويفقأون العينين بالعين؟
12066 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خلاد الكوفي قال، حدثنا الثوري، عن السدي، عن أبي مالك قال:كان بين حيين من الأنصار قتالٌ، فكان بينهم قتلى، وكان لأحد الحيين على الآخر طَوْلٌ، (86) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يجعَلُ الحرَّ بالحرِّ، والعبدَ بالعبد، والمرأة بالمرأة، فنـزلت:الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ[سورة البقرة:178]= قال سفيان:وبلغني عن ابن عباس أنه قال:نسختها:"النفس بالنفس ". (87)
12067 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس "= فيها في التوراة-"والعين بالعين "حتى:"والجروح قصاص "، قال مجاهد عن ابن عباس قال:كان على بني إسرائيل القصاصُ في القتلى، ليس بينهم دية في نفسٍ ولا جُرْحٍ. قال:وذلك قول الله تعالى ذكره:"وكتبنا عليهم فيها "في التوراة، فخفف الله عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل عليهم الدية في النَّفس والجِراح، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة=فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.
12068 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسن والجروح قصاص "، قال:إن بني إسرائيل لم تُجعل لهم ديةٌ فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت، أو جرح، أو سنّ، أو عين، أو أنف. إنما هو القصاصُ، أو العفو.
12069 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكتبنا عليهم فيها "، أي في التوراة="أن النفس بالنفس ".
12070 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكتبنا عليهم فيها "، أي في التوراة، بأن النفس بالنفس.
12071 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس "حتى بلغ "والجروح قصاص "، بعضها ببعض.
12072 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أن النفس بالنفس "، قال يقول:تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنـزع السنّ بالسن، وتقتصّ الجراح بالجراح.
* * *
قال أبو جعفر:فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم، رجالهم ونساؤهم، إذا كان في النفس وما دون النفس= ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس. (88)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره:فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ
قال أبو جعفر:اختلف أهل التأويل في المعنيِّ به:"فمن تصدق به فهو كفارة له ".
فقال بعضهم:عنى بذلك المجروحَ ووليَّ القتيل.
ذكر من قال ذلك:
12073 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قال:يُهْدَم عنه = يعني المجروح = مثلُ ذلك من ذنوبه.
12074 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو، بنحوه.
12075 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود أبي العُرْيان قال:رأيت معاوية قاعدًا على السرير، وإلى جنبه رجلٌ أحمر كأنه مَوْلىً= وهو &; 10-363 &; عبد الله بن عمرو= فقال في هذه الآية:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قال:يُهْدَم عنه من ذنوبه مثل ما تصدّق به. (89)
12076 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قال:للمجروح.
12077 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن أبي عقبة، عن جابر بن زيد:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قا ل:للمجروح. (90)
12078 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني حَرِميّ بن عمارة قال، حدثنا &; 10-364 &; شعبة قال، أخبرني عمارة، عن رجل= قال حرميّ:نسيت اسمه= عن جابر بن زيد، بمثله. (91)
12079 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قال:للمجروح.
12080 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن فضيل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال:دفع رجلٌ من قريش رجلا من الأنصار فاندقَّتْ ثنيَّتُه، فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألحَّ عليه الرجل قال معاوية:شأنَكَ وصاحبَك! قال:وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:ما من مسلم يُصَاب بشيء من جسده فيَهبُه، إلا رفعه الله به درجةً وحطّ عنه به خطيئة. فقال له الأنصاري:أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:سمعته أذناي ووَعاه قلبي! فخلَّى سبيلَ القرشيّ، فقال معاوية:مروا له بمالٍ. (92)
12081 - حدثنا محمود بن خداش قال، حدثنا هشيم بن بشير قال، &; 10-365 &; أخبرنا مغيرة، عن الشعبي قال، قال ابن الصامت:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:من جُرِح في جسده جراحةً فتصدَّق بها، كُفّر عنه ذنوبه بمثل ما تصدّق به. (93)
12082 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قال:كفارة للمجروح.
12083 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا قال:سمعت عامرًا يقول:كفارة لمن تصدَّق به.
12084 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، يقول:لوليّ القتيل الذي عفا.
12085 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم، عن الهيثم أبي العريان قال:كنت بالشأم، وإذا برجل مع معاوية قاعدٍ على السرير كأنه مولًى، قال:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قال:فمن تصدق به هدَم الله عنه مثلَه من ذنوبه= فإذا هو عبد الله بن عمرو. (94)
* * *
وقال آخرون:عنى بذلك الجارحَ. وقالوا:معنى الآية:فمن تصدق بما وجب له من قَود أو قصاصٍ على من وجب ذلك له عليه، فعفا عنه، فعفوه ذلك عن الجاني كفّارة لذنب الجاني المجرم، كما القِصاص منه كفَّارة له. قالوا:فأما أجْر العافِي المتصدِّق، فعلى الله.
ذكر من قال ذلك:
12086 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قال:كفارة للجارح، وأجر الذي أُصِيب على الله.
12087 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، قال سمعت مجاهدًا يقول لأبي إسحاق:"فمن تصدّق به فهو كفارة له "، يا أبا إسحاق، [لمن]؟ (95) قال أبو إسحاق:للمتصدق= فقال مجاهد:للمذنب الجارح.
12088 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، قال مغيرة، قال مجاهد:للجارح.
12089 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، مثله.
12090 - حدثنا هناد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قالا للذي تُصُدِّق عليه، وأجرُ الذي أصيب على الله= قال هناد في حديثه، قالا كفارة للذي تُصُدِّق به عليه.
12091 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، بنحوه.
12092 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر قال:كفارة لمن تُصُدِّق به عليه.
12093 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم قالا كفارة للجارح، وأجر الذي أصيب على الله.
12094 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال:سمعت زيد بن أسلم يقول:إن عفا عنه، أو اقتص منه، أو قبل منه الدية، فهو كفّارة له.
12095 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال:كفارة للجارح، وأجرٌ للعافي، لقوله:(96)فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[سورة الشورى:40].
12096 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فمن تصدّق به فهو كفارة له "، قال:كفارة للمتصدَّقِ عليه.
12097 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، حدثنا حصين، عن ابن عباس:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قال:هي كفارة للجارح.
12098 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن &; 10-368 &; عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، قال:فالكفارة للجارح، وأجر المتصدِّق على الله.
12099 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقول:"فمن تصدق به فهو كفارة له "، يقول:للقاتل، وأجرٌ للعافي.
12100 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عمران بن ظبيان، عن عديّ بن ثابت قال، هُتِم رجل على عهد معاوية، (97) فأعطي دية فلم يقبل، ثم أعطي ديتين فلم يقبل، ثم أعطي ثلاثًا فلم يقبل. فحدَّث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فمن تصدّق بدمٍ فما دونه، كان كفّارة له من يوم تَصدَّق إلى يوم وُلد ". قال:فتصدَّق الرجل. (98)
12101 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له "، يقول:من جرح فتصدَّق بالذي جُرِح به على الجارح، فليس على الجارح سبيلٌ ولا قَوَدٌ ولا عَقْلٌ، ولا حَرَج عليه، (99) من أجل أنه تصدق عليه الذي جُرِح، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظَلَم.
* * *
قال أبو جعفر:وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال:عني به:"فمن تصدّق به فهو كفارة له "، المجروحَ (100) = فلأن تكون "الهاء "في قوله:"له "عائدةً على "مَنْ"، أولى من أن تكون مِنْ ذِكْر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح، وأحرَى، إذ الصدقة هي المكفِّرة ذنبَ صاحبها دون المتصدَّق عليه في سائر الصدقات غير هذه، فالواجب أن يكون سبيلُ هذه سبيلَ غيرها من الصدَّقات.
* * *
فإن ظنّ ظانّ أن القِصاصَ= إذْ كان يكفّر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلمًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ أخذ البيعة على أصحابه (101) "أن لا تقتلوا ولا تزنُوا ولا تسرقوا "ثم قال:"فمن فَعَل من ذلك شيئًا فأقيم عليه حدُّه فهو كفارته "(102) فالواجب أن يكونَ عفوُ العافي المجنيِّ عليه، أو ولي المقتول عنه نظيرَه، (103) في أن ذلك له كفارة. فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك، لوجب أن يكون عفوُ المقذوفِ عن قاذفه بالزنا، وتركِه أخذه &; 10-370 &; بالواجب له من الحدِّ، وقد قذفه قاذِفُه وهو عفيفٌ مسلم مُحْصَن، كفَّارةً للقاذف من ذنبه الذى ركبه، ومعصيته التي أتاها. وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله.
فإذْ كان غير جائز أن يكون تركُ المقذوف =الذي وصفنا أمره= أخذَ قاذفه بالواجب له من الحدّ= كفارةً للقاذف من ذنبه الذي ركبه، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذَ الجارح بحقِّه من القصاص، كفَّارةً للجارح من ذنبه الذي ركبه.
* * *
فإن قال قائل:أو ليس للمجروح عندك أخْذُ جارحه بدية جرحه مكانَ القِصاص؟
قيل له:بلى!
فإن قال:أفرأيت لو اختار الدّية ثم عفا عنها، أكانت له قِبَله في الآخرة تَبِعةٌ؟
قيل له:هذا كلام عندنا محالٌ. وذلك أنه لا يكون عندنا مختارًا لديةٍ إلا وهو لها آخذٌ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم= وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غيرِ هذا، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع (104) = إلا أن يكون مرادًا بذلك هِبتُها لمن أخذت منه بعد الأخذ. مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صَحَّ، لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوُّ له عنها بريئًا من عقوبة ذنبه عند الله; لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتلَ المؤمن بما أوعده به إن لم يتُبْ من ذنبه، والدية مأخوذة منه، أحبَّ أم سخط. والتوبة من التَائب إنما تكون توبةً إذا اختارها وأرادَها وآثرها على الإصرار.
* * *
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك، فقد يجب أن يكون له كفارةً، كما كان القصاص له كفارة، (105) فإنَّا إنما جعلنا القِصاص له كفارة= مع ندمه وبَذْله نفسَه لأخذ الحق منها= تنصُّلا من ذنبه، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم. فأما الدية إذا اختارها المجروحُ ثم عفا عنها، فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه، فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله:"فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته ". ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك، الأخبارُ التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:"فمن تصدّق بدمٍ"، (106) وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل.
* * *
وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارحَ، أرادوا المعنى الذي ذُكر عن عروة بن الزبير الذي:-
12102- حدثني به الحارث بن محمد قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، (107) حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال:إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المُصاب من أصابه، فاعترف له المصيب، فهو كفارة للمُصيب. قال:وكان مجاهد يقول عند هذا:أصاب عروة ابن الزبير عينَ إنسان عند الركن فيما يستلمون، (108) فقال له:يا هذا، أنا عروة بن الزبير، فإن كان بعينك بأس فأنَا بها!
* * *
وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعلٍ على غير عمدٍ، ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه، فعفا له المصاب بذلك عن حقِّه قبله، فلا تبعة له حينئذٍ قَبِل المُصيب في الدنيا ولا في الآخرة. لأن الذى كان وجب له قبله مالٌ لا قِصاص، وقد أبرأه منه:فإبراؤه منه، كفَّارة للمبرَّأ من حقه &; 10-372 &; الذي كان له أخذه به، (109) فلا طَلِبة له بسبب ذلك قِبَله في الدنيا ولا في الآخرة، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه إلى من أصابه، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به، فيكون بفعله آثمًا يستحق به العقوبة من ربه، (110) لأن الله عز وجل قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطأوا فيه ولم يتعمّدوه من أفعالهم، فقال في كتابه:وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. (111) [سورة الأحزاب:5]
* * *
و "التصدق "، في هذا الموضع، بالدم، العفو عنه. (112)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره:وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:ومن لم يحكم بما أنـزل الله في التوارة من قَوَدِ النفس القاتلة قِصاصًا بالنفس المقتولة ظلمًا. ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوء ظلمًا، قِصاصًا ممن أمره الله به بذلك في كتابه، ولكن أقاد من بعضٍ ولم يُقِدْ من بعض، أو قتل في بعض اثنين بواحد، فإنّ من يفعل ذلك من "الظالمين "(113) = يعني:ممن جارَ عن حكم الله، (114) ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعًا. (115)
* * *
-----------------
الهوامش:
(83) انظر تفسير"كتب"فيما سلف ص:232 تعليق:1 ، والمراجع هناك.
(84) انظر تفسير"القصاص"فيما سلف 3:357- 366/ثم 3:579 تعليق:1.
(85) قوله:"وفاء من دم النضيري"، أي يعادله ويساويه. يقال:"وفى الدرهم المثقال"أي:عادله.
(86) "الطول"(بفتح فسكون):العلو والفضل والعزة.
(87) الأثر:12066- مضى خبر السدي عن أبي مالك بإسناد آخر رقم:2564.
(88) من أول قوله:"فهذا يستوي ..."إلى آخر الكلام ، يشبه عندي أن يكون من كلام أبي جعفر ، فلذلك ، فصلته عن خبر ابن عباس ، وكتبت قبله:"قال أبو جعفر".
(89) الآثار:12073- 12075- ثم يأتي أيضًا من طريق أخرى برقم:12085.
"سفيان"، هو الثوري.
و"قيس بن مسلم الجدلي العدواني"، ثقة ، مضى برقم:9744.
و"طارق بن شهاب الأحمسي"، ثقة ، مضى برقم:9744 ، 11682.
و"الهيثم بن الأسود النخعي"، "أبو العريان"، أدرك عليًا ، وروى عن معاوية وعبد الله بن عمرو. ثقة من خيار التابعين ، كان خطيبًا شاعرًا. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه في السنن 8:54 ، بمثله. وذكره ابن كثير في تفسيره 3:167 ، من تفسير ابن أبي حاتم ، من طريق أبي داود الطيالسي ، عن شعبة. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2:288 ، وزاد نسبته للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.
وقوله:"وإلى جنبه رجل أحمر كأنه مولى"، "الأحمر"عندهم:الأبيض ، لأن بياض الناس تشوبه الحمرة ، ولذلك سموا العجم"الحمراء"، لبياضهم ، ولغلبة الشقرة عليهم. وقد ذكر ابن سعد (4/2/11) صفة عبد الله بن عمرو ، عن"العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي"قال:"وفدت مع أبي إلى يزيد بن معاوية ، فجاء رجل طوال أحمر ، عظيم البطن ، فسلم وجلس. فقال أبي:من هذا؟ فقيل:عبد الله بن عمرو". وروي أيضا عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، أنه وصف عبد الله بن عمرو فقال:"رجل أحمر عظيم البطن طوال". وعنى بقوله:"كأنه مولى"، كأنه من العجم أو الفرس.
وكان في المطبوعة والمخطوطة:"وإلى جنبه رجل آخر"، وهو خطأ صرف كما ترى.
(90) الأثر:12077-"عمارة بن أبي حفصة العتكي"، ثقة ، مضى برقم:8513.
و"أبو عقبة"، لم أجد له ذكرا ، ولم أعرف من هو.
و"جابر بن زيد الأزدي اليحمدي"، "أبو الشعثاء"، ثقة ، كان من أعلم الناس بكتاب الله. مضى برقم:5136 ، 5472.
(91) الأثر:12078-"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي"، مضى هو وأبوه"عمارة بن أبي حفصة"فيما سلف رقم:5813.
والرجل الذي نسيه"حرمي"، هو"أبو عقبة"المذكور في الأثر السالف.
(92) الأثر:12080-"يونس بن أبي إسحق السبيعي"، ثقة. مضى برقم:3018.
و"أبو السفر"، هو:"سعيد بن يحمد الثوري"تابعي ثقة ، يروي عن متوسطي الصحابة كابن عباس وابن عمر. مضى برقم:3010.
وهذا الإسناد منقطع ، لأن أبا السفر لم يسمع أبا الدرداء.
وروى الخبر أحمد في مسنده 6:448 ، من طريق وكيع عن يونس بن أبي إسحق ، بمثله.
ورواه البيهقي في السنن 8:55 ، من طريق شيبان بن عبد الرحمن ، عن يونس بن أبي إسحق ، بمثله. ورواه ابن ماجه في سننه ص:898 ، رقم:2693.
ورواه الترمذي في"أبواب الديات"، "باب ما جاء في العفو"، من طريق عبد الله بن المبارك ، عن يونس بن أبي إسحق. ثم قال الترمذي:"هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولا أعرف لأبي السفر سماعًا من أبي الدرداء".
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3:168 ، وزاد نسبته لابن ماجه.
(93) الأثر:12081-"ابن الصامت"، هو"عبادة بن الصامت"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الخبر ، إسناد صحيح إلى الشعبي ، رواه أحمد في مسنده 5:316 ، من طريق سريج بن النعمان ، عن هشيم ، بمثله ، ثم رواه ابنه عبد الله في 5:329 ، من طريق شجاع بن محمد ، عن هشيم ، بمثله ثم رواه عبد الله أيضا 5:330 ، من طريق إسمعيل بن أبي معمر الهذلي ، عن جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن ابن الصامت بلفظ:"من تصدق عن جسده بشيء ، كفر الله تعالى عنه بقدر ذنوبه".
ورواه البيهقي بغير هذا اللفظ من طريق أبي داود ، عن محمد بن أبان ، عن علقمة بن مرثه ، عن الشعبي"، وقال:"هو منقطع"، وذلك أن الشعبي ، لم يسمع من عبادة بن الصامت.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3:168 ، وزاد نسبته للنسائي ، عن علي بن حجر ، عن جرير بن عبد الحميد.
(94) الأثر:12085-"شبيب بن سعيد التميمي الحبطي"، ثقة ، مضى برقم:6613.
وهذا الأثر مضى قبل ذلك بالأسانيد رقم 12073 - 12075 ، ولا أدري أسقط من الناسخ هنا"عن طارق بن شهاب"، كما في سائر الأسانيد ، أم هكذا رواه ابن وهب عن شبيب بن سعيد. ولذلك تركته على حاله ، ولكن لا شك أن الراوي عن الهيثم ، هو طارق بن شهاب.
وأما قوله"الهيثم أبي العريان"فقد كان في المخطوطة والمطبوعة:"الهيثم بن العريان"، وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه ما أثبت. وقد مضى ذكره في الأسانيد السالفة ، انظر التعليق هناك.
(95) ما زدته بين القوسين ، لا بد من زيادته أو ما بشبهه.
(96) في المخطوطة:"إلى قوله:فمن عفا..."، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ ، والذي في المطبوعة هو الصواب.
(97) "هتم الرجل"(بالبناء للمجهول):انكسر مقدم أسنانه."هتم فاه يهتمه هتمًا"متعديا = و"هتم هتما"(على وزن سكر) فهو"أهتم"، و"تهتمت ثناياه".
(98) الأثر:12100-"عمران بن ظبيان الحنفي". قال البخاري:"فيه نظر"، وقال أبو حاتم:"يكتب حديثه"، ثم اختلف في أمره ابن حبان ، فذكره في الثقات ، ثم عاد فذكره في الضعفاء ، وقال"فحش خطؤه ، حتى بطل الاحتجاج"، وضعفه العقيلي وابن عدي. وكان يميل إلى التشيع.
وأما "عدي بن ثابت الأنصاري"، فهو ثقة صدوق ، كان إمام مسجد الشيعة وقاصهم. وروى له الأئمة ، مضى برقم:11726.
وهذا الخبر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 1:288 ، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور ، وابن مردويه. ولفظ الخبر عن رسول الله:"من تصدق بدم فما دونه ، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت". وساقه بلفظه هذا ابن كثير في تفسيره 3:168 ، عن ابن مردويه ، قال"حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا محمد بن علي بن زيد ، عن سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن عمران بن ظبيان". وكأن الصواب هو هذا اللفظ ، وما في التفسير أنا في شك من صحة لفظه ، ولكني تركته على حاله ، ولو كان:"من يوم ولد إلى يوم تصدق"، لكان أقوم لفظًا ومعنى.
(99) في المطبوعة:"ولا جرح عليه"، والصواب ما أثبت ، والمخطوطة غير منقوطة.
(100) في المطبوعة والمخطوطة:"عنى به فمن تصدق..."، والسياق يقتضي ما أثبت.
(101) في المطبوعة:"كقول النبي صلى الله عليه وسلم"، والصواب ما أثبت.
(102) هذا الخبر رواه أبو جعفر مختصرًا غير مسند ، وهو خبر صحيح. انظر صحيح مسلم 11:222 - 224.
(103) السياق:"فإن ظن ظان أن القصاص ، إذ كان يكفر ذنب صاحبه... فالواجب أن يكون عفو العافي... نظيره.
(104) انظر ما سلف 3:371 ، وما قبلها.
(105) في المطبوعة:"كما جاز القصاص"، وفي المخطوطة"كان"إلا أنه كتب جيما ثم وضع عليها شرطة الكاف ، وأما الحرف الأخير فهو"نون"، فصحيح قراءته ما أثبت ، وهو حق السياق أيضًا.
(106) في المطبوعة والمخطوطة."فمن تصدق به"، والصواب ما أثبته ، وهو نص الأثر السالف رقم:12100.
(107) في المطبوعة:"قال حدثنا ابن سلام"، وفي المخطوطة:"قال حدثنا القاسم الحارث بن سلام"ثم ضرب على"القاسم"و"الحارث"ثم وضع بجوار"القاسم"علامة التصحيح وهي (صح).
(108) في المخطوطة:"فيما يسلمون"، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، وهو قريب الاستقامة. وفي تفسير أبي حيان 3:497 ، "وهم يستلمون"، وهي أجود.
(109) في المطبوعة:"كفارة له من حقه"، وفي المخطوطة"كفارة *لمتزامر[محذوفة النقط] من حقه"، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(110) في المطبوعة:"فيكون بفعله إنما يستحق العقوبة"، وهو كلام فارغ المعنى ، و *"انما"هكذا في المخطوطة غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(111) في المخطوطة والمطبوعة ، كتب الآية هكذا:"ولا جناح عليكم فيما أخطأتم..."، وليس فيما نتلو آية كهذه ، وإنما هي آية الأحزاب كما أثبتها.
(112) في المطبوعة:"وقد يراد في هذا الموضع بالدم العفو عنه"، وهو كلام لا معنى له ولا ضابط. وفي المخطوطة:"وا * في هذا الموضع بالدم ، العفو عنه"، بين الكلامين بياض وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ ، فاستظهرت صواب الكلام من سياق تفسير هذه الآية.
(113) في المطبوعة والمخطوطة:"وإن من يفعل ذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(114) في المطبوعة:"جار على حكم الله"، والصواب من المخطوطة.
(115) انظر تفسير"الظلم"فيما سلف من فهارس اللغة.