المفردات:
قصاص: القصاص: عقاب الجاني بمثل ما جنى .
تصدق: أي: عفا عن الجاني .
كفارة له: محو لذنوبه وآثامه .
التفسير:
45- وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ...الآية
أي: وكتبنا على اليهود في التوراة القصاص بقتل النفس بالنفس كبيرة أو صغيرة ،ذكرا أو أنثى ،وشرع من قبلنا يلزم إذا لم ينسخ ،والعين بالعين . أي: أن العين إذا فقئت ،أو قلعت عمدا ولم يبق فيها مجال للإدراك ،فيجب أن تفقأ عين الجاني أو تقلع بها ،وقال القاضي أبو يعلى: ليس المراد قلع العين بالعين ،لتعذر استفاء المماثلة ،لأنا لا نقف على الحد الذي يجب فيما ذهب ضوءها وهي قائمة ،وصفة ذلك أن تشد عين القالع ، و تحمي مرآة ،فتقدم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوءها .
والأنف بالأنف .إذا جدع جميعه فإنه يجدع أنف الجاني به .والأذن بالأذن .أي: تقطع الأذن بالأذن ،والسن بالسن .أي: وكذلك السن إذا قلعت أو كسرت تؤخذ بها ،لا فرق بين الثنايا ،والأنياب ،والأضراس ،والرباعيات ، وأنه يؤخذ بعضها ببعض ،ولا فصل لبعضها بعض ،وينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للمأخوذ من المجني عليه ،كالأذن اليمنى مثلا دون اليسرى .
والجروح قصاص .{[249]} فيقتص من الجاني بجرح مثل ما جرح ،إن كان لا يحدث من القصاص تلف النفس ،ويعرف مقدار الجرح عميقا أو طويلا أو عرضا ،وقد قدر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة .
جاء في تفسير الوسيط:
ويتم القصاص إذا كانت المساواة ممكنة فإذا تعذرت المساواة كما إذا فقأ أعمى عين مبصرة أو كان فيها خطر على حياة المقتص منه كما إذا فقأ أعور عين مبصر ففي ذلك دية الجراح{[250]} فمن تصدق به: أي: فمن عفا عن القصاص من الجاني بقبول الدية أو كع التنازل عنها فهو كفارة له أي: فهو كفارة للمتصدق يكفر الله بها عنه ذنوبه .
وعبر عن العفو والتصديق للترغيب فيه وإظهار جزيل ثوابه والقصاص المذكور في الآية غنما يكون حال العدوان العمد أما الخطأ أو شبهه ففيه الدية
في أعقاب الآية:
1- ختم الله الآية السابقة بقوله: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وفي هذه الآية قال: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم .
قال ابن كثير:
هذه الآية مما وبخت به اليهود وأيضا وقرعن عليهم فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا فأفادوا النضري من القرظي ولم يقيدوا القرظي من النضري وعدلوا إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن وعدلوا إلا ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ولهذا قال هناك: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا وقال هنا: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ في تتمة الآية لأنهم لم ينصفوا المظلم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه فخالفوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض ....اه .
2- استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي{[251]} وذهب بعض العلماء إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة بل تجب عليه ديتها وإلى أنه لا يقتل مؤمن بكافر وأجاب العلماء بأن الآية عامة تفيد النفس بالنفس وما روى في الحديث لا يقتل مؤمن بكافر{[252]} والمراد بما روى الحربي
3- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فإتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( البقرة:178 ) .
تذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقا .
وعند التحقيق نجد أن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين على فرد معين ،فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمدا .
فأما آية البقرة فمجالها مجال الاعتداء الجماعي حيث تعتدي أسرة على أسرة أو جماعة على جماعة فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء فإذا أقيم ميزان القصاص ؛كان الحر من هذه بالحر من تلك والعبد من هذه بالعبد من تلك ،والأنثى من هذه بالأنثى من تلك ،وإلا فكيف يكون القصاص في مثل تلك الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة ،وإذا صح هذا النظر ،وعلمنا أن سبب نزول آية البقرة أن حيين من العرب اقتتلا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهما قتلى وجرحات فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ،فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ،وبالمرأة منا الرجل فنزل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى .
وإذا أمعنا النظر فلن يكون هناك تعارض بين الآيتين .آية البقرة في الاعتداء الجماعي ،وآية المائدة في الاعتداء الفردي{[253]}
4- لم يكن لا يهود إلا القصاص .ولم يكن للنصارى إلا العفو وخيرت الأمة الإسلامية بين القصاص ،وقبول الدية والعفو ،وقد رغب القرآن في العفو وحث عليه قال تعالى: فمن عفا وأصلح فأجره على الله .( الشورى: 40 ) وقال سبحانه: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس .( آل عمران: 134 ) وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من رجل يخرج في جسده جراحة فيتصدق بها ؛إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به "{[254]} ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة ،فقد شرع القصاص ؛زجرا للمعتدي ،وإشعارا له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده ،وجبرا لخاطر المعتدي عليه ،وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه ،ومع هذا التمكين التام للمجني عليه من الجاني ،فقد رغب الإسلام المجني عليه في العفو والصفح حيث قال:
فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ .
5- قال ابن العربي: نص الله سبحانه وتعالى على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت ،وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه ،وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه .
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .أي: أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية .