المفردات:
والربانيون: جمع رباني ؛وهو المنسوب إلى الرب .والمراد: الزهاد والعباد .
والأحبار: جمع حبر ؛وهو: العالم ،أو رؤساء العلماء عند اليهود .
استحفظوا: كلفوا من الله بالمحافظة عليه .
شهداء: أي: رقباء يحمونه من التغيير والتبديل .
التفسير:
44-إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ...الآية .
هذا كلام مستأنف لبيان علو شأن التوراة فهو سبحانه الذي انزلها من عنده لتكون مصدر هداية للناس إلى سبيل الله مشتملة على الأحكام والتكاليف والشرائع .
ومشتملة على النور من بيان للعقائد السليمة والمواعظ الحكيمة والأخلاق القويمة .
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي:
والمعنى: إنا أنزلنا التوراة على نبينا موسى مشتملة على ما يهدي الناس إلى الحق من أحكام وتكاليف وعلى ما يضئ لهم حياتهم من عقائد ومواعظ وأخلاق فاضلة .
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ..
النبيون .هنا هم الأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى .
الَّذِينَ أَسْلَمُواْ .صفة للنبيين أي: أخلصوا وجوههم لله
قال الشوكاني: وفيه إرغام لليهود بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام ،الذي دان به محمد صلى الله عليه وسلم ،فلا يقال لنبي من الأنبياء: إنه يهودي أو نصراني ،بل كانوا جميعا مسلمين .
لِلَّذِينَ هَادُواْ .أي: رجعوا عن الكفر ،والمراد لهم اليهود .
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء .
َالرَّبَّانِيُّونَ .العلماء الحكماء .
الأَحْبَار .العلماء .
وقال مجاهد: الربانيون: الفقهاءُو العلماء وهم فوق الأحبار ،وقال ابن عباس: الربانيون: هم الذين يسوسون الناس بالعلم ،ويربونهم بصغاره قبل كباره .
والحبر والحبر: الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير وهو التحسين ،فهم يخبرون العلم أي: يبينونه ويزينونه ،وهو محبر في صدورهم{[242]}
بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ .أي: أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبذيل والمحافظة على تطبيق أحكامها ،وأن يكونوا رقباء على تنفيذ حدودها ،وتطبيق أحكامها ؛حتى لا يهمل شيء منها .
والمعنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هداية للناس إلى الحق ، وضياء لهم من ظلمات الباطل ،وهذه التوراة يحكم بها بين اليهود أنبياؤهم الذين أسلموا وجوههم لل ، ه وأخلصوا له العبادة والطاعة ،ويحكم بها أيضا الربانيون والأحبار الذين التزموا طريقة الأنبياء .
وكان هذا الحكم منهم بالتوراة بين اليهود ،بسبب انه تعالى حملهم أمانة حفظ كتابه والقيام على تنفيذ أحكامه ،وشرائعه وتعاليمه .
قال الفخر الرازي:
قوله تعالى: بما استحفظوا من كتاب الله .
حفظ كتاب الله على وجهين .
الأول: أن يحفظ فلا ينسى .
والثاني: أن يحفظ فلا يضيع ،وقد اخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين:
أحدهما: أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم .
الثاني: ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه{[243]}
فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ .
الخشية: خوف يشوبه تعظيم ،وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه ،ولذلك خص العلماء بها في قوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ..{[244]} ( فاطر: 20 ) .
فالخشية خوف يشوبه تعظيم ومحبة للمخشي ،بخلاف الخوف فهو أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب أو مرهوب مبغوض مذموم .
والمعنى: إذا كان شأن التوراة ،أن تنفذ أحكامها وتعاليمها فلا تخافوا يا علماء اليهود ،أحدا من الناس كائنا من كان ،وعليكم أن تطبقوا أحكام الله كما أنزلها الله وأن تجعلوا خشيتكم مني وحدي ،لا من أحد من الناس فانا الذي بيدي نفع العباد وضرهم .
وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً .أي: لا تتركوا الحكم بما أنزل الل ؛ ه خوفا من احد أو رغبة في مصلحة أو رشوة .
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسير سورة المائدة .
والاشتراء هنا معناه: الاستبدال ،والمراد بالآيات: ما اشتملت عليه التوراة من أحكام وتشريعات وبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالثمن القليل: حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه ،وما إلى ذلك من متع الحياة الدنيا .
أي: ولا تستبدلوا بأحكام آياتي التي اشتملت عليها التوراة ،أحكاما أخرى تغايرها وتخالفها لكي تأخذوا في مقابل هذا الاستبدال ثمنا قليلا من حظوظ الدنيا .
وهذا الثمن لا يكون إلا قليلا- وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا- بالنسبة لطاعة الله والرجاء في رحمته ورضاه .
وهذا النهي ،وإن كان موجها إلى رؤساء اليهود وأحبارهم ،إلا أنه يتناول الناس جميعا في كل زمان ؛لأنه نهى عن رذائل يجب أن يبتعد عنها كل إنسان يتأتى له الخطاب .وإلى هذا المعنى أشار الآلوسي بقوله: فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ..خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات- إذا انتقل من الحديث عن الأحبار السابقين منهم إلى خطاب هؤلاء المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم- ويتناول غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة{[245]}
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ .
هذه الآية ،وما يأتي من قوله تعالى: فأولئك هم الظالمون .
وقوله تعالى: فأولئك هم الفاسقون .نزلت كلها في الكفار وعلى هذا رأى أكثر المفسرين .
فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة{[246]}
صفحة من تفسير القرطبي
قال القرطبي{[247]} قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ .
والظالمون والفاسقون .نزلت كلها في الكفار ؛ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء ،وقد تقدم .وعلى هذا المعظم فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة .وقيل: فيه إضمار ؛أي: ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن ، وحجدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر ؛قاله ابن عباس ومجاهد ،فالآية عامة على هذا .
قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار ،أي: معتقدا ذلك ومستحلا له ؛فأما من فعل ذلك ،وهو معتقد أنه راكب محرم ؛فهو من فساق المسلمين ،وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له .
وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار .وقيل أي: ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله ؛فهو كافر ،فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع ؛فلا يدخل في هذه الآية ،والصحيح الأول ، إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة ،واختاره النحاس ؛قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء منها: أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله: للذين هادوا .فعاد الضمير عليهم ،ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك ،ألا ترى أن بعده وكتبنا عليهم .فهذا الضمير لليهود بإجماع ؛وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص .فإن قال قائل: من إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها ؟قيل له: من .هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة ؛والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك الكافرين ؛فهذا من أحسن ما قيل في هذا .
ويروي أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل ؟قال: نعم هي فيهم ،ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل .وقيل: الكافرون .للمسلمين ،والظالمون لليهود ،والفاسقون .للنصارى ؛وهذا اختيار أبي بكر بن العربي ،قال: لأنه ظاهر الآيات ،وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعبي أيضا .قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة ،ولكنه كفر دون كفر{[248]} .