قوله تعالى:{بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شهداء} الآية .
أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأحبار والرهبان استحفظوا كتاب الله يعني استودعوه ،وطلب منهم حِفظه ،ولم يبين هنا هل امتثلوا الأمر في ذلك وحفظوه ،أو لم يمتثلوا الأمر في ذلك وضيعوه ؟ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا الأمر ،ولم يحفظوا ما استحفظوه ،بل حرفوه وبدلوه عمداً كقوله:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [ النساء: 46] الآية .
وقوله:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [ المائدة: 41] الآية ،وقوله:{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [ الأنعام: 91] ،وقوله:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ اللَّهِ} [ البقرة: 79] الآية ،وقوله جل وعلا:{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [ آل عمران: 78] الآية ،إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه
إن قيل ما الفرق بين التوراة والقرآن ،فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله وسلامه عليهم ،والتوراة حرفت ،وبدلت كما بيناه آنفاً ،والقرآن محفوظ من التحريف والتبديل ،لو حرف منه أحد حرفاً واحداً فأبدله بغيره ،أو زاد فيه حرفاً أو نقص فيه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلاً عن كبارهم .
فالجواب أن الله استحفظهم التوراة ،واستودعهم إياها ،فخانوا الأمانة ولم يحفظوها ،بل ضيعوها عمداً والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه ،بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة ،كما أوضحه بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [ الحجر: 9] ،وقوله:{لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [ فصلت: 42] الآية ،إلى غير ذلك من الآيات و «الباء » في قوله:{بِمَا اسْتُحْفِظُواْ} متعلقة بالرهبان والأحبار ،لأنهم إنما صاروا في تلك المرتبة بسبب ما استحفظوا من كتاب الله .
وقيل: متعلقة ي{يحكم} والمعنى متقارب .
قوله تعالى:{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة: هل هي في المسلمين ،أو في الكفّار ،فروي عن الشعبي أنها في المسلمين ،وروي عنه أنها في اليهود ،وروي عن طاوس أيضاً أنها في المسلمين ،وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر ،وأنه ليس الكفر المخرج من الملة ،وروِي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: ليس الكفر الذي تذهبون إليه ،رواه عنه ابن أبي حاتم ،والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ،ولم يخرجاه ،قاله ابن كثير .
قال بعض العلماء: والقرآن العظيم يدل على أنها في اليهود ،لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم{يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ} ،وأنهم يقولون{إِنْ أُوتِيتُمْ هذا} يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله{فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} أي المحرف ،بل أوتيتم حكم الله الحق{فَاحْذَرُواْ} فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه حق .