التوراة والإنجيل والقرآن كتب هدىً ونور
في هذه الآيات حديث تفصيلي عن الرسالات الثلاث ،الّتي أرسل الله بها أنبياءه موسى وعيسى ومحمَّدصلوات الله وسلامه عليهمتأكيداً على أنَّ كل واحدة منها هي خط الحقّ الَّذي رسمه الله لعباده ،وشرعة العدل الّتي أقامها للحياة ،من أجل أن ينفتح النَّاس على الحلول الواقعيّة العادلة لمشاكلهم الّتي يتخبطون فيها .فهي الصورة الحيّة المشرقة لحكم الله الَّذي يريد الله للنَّاس أن يحكموا به في ما يتنازعون فيه من قضايا وأعمال ،فليس لهم أن يتجاوزوه إلى غيره ،استجابة لأي ضغط داخلي أو خارجي ،لأنَّ مصلحتهم في الحياة الدنيا من جهة ،وعبوديتهم المطلقة لله من جهة أخرى ،تفرض عليهم الالتزام الدقيق به على كل حال ،واعتبر الانحراف عنه وعدم الحكم به كفراً وفسقاً وظلماً .وحذّر الأنبياءفي عمليّة إيحائية بخطورة القضيةمن أن يخضعوا للضغوط الّتي يمارسها الآخرون عليهم ،لينحرفوا بهم عن الخط المستقيم في إقامة حكم الله بين النَّاس ،وأمرهم بأن يعرضوا عن كل من أعرض عن حكم الله ،لأنَّ الله هو الَّذي يتكفل بحسابهم في الدنيا والآخرة .
مدخل عام
{إِنا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} مما بيّناه من عقائد ومفاهيم وأحكام تهديهم إلى الحقّ وتبعدهم عن الباطل وتنير لهم السبيل إلى المعرفة الحقّة الصافية الّتي لا ظلمة فيها ولا غموض ،وتلك هي صفة كتب الله الّتي ينزلها على رسله ليخرجوا النَّاس من الضلال إلى الهدى ،ومن الظلمات إلى النور ،ولتمثِّل القانون العادل الَّذي يرجعون إليه في كل خلافاتهم ونزاعاتهم في شؤون الحياة العامة والخاصة ،وقد أنزل الله التوراة على موسى( ع ) هدىً وأنواراً تمتد إلى مدى الزمن في شرائعها الباقية ؛{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} وأذعنوا له وخضعوا لوحيه بكل ما يشتمل عليه ممن جاء من بعد موسى( ع ) .
{لِلَّذِينَ هَادُواْ} الَّذين آمنوا بموسى( ع ) والتزموا بالتوراة كتاباً منزلاً من الله ليفصل بينهم في ما اختلفوا فيه من الحقّ في العقيدة والشريعة ،لأنَّ هؤلاء الأنبياء يملكون علم التوراة كما أنزلها الله ،فلا يملك اليهود المنحرفون إخفاء ذلك أو تحريف ما فيها من أحكام لمصالحهم الخاصة ،لأنَّ الأنبياء يفضحون ذلك بما أعطاهم الله من علم الكتاب .
{وَالرَّبَّانِيُّونَ} وهم العلماء المنقطعون إلى الله علماً وعملاً الَّذين يقومون بمهمة التربية للنَّاس بما يملكون من علم ،{وَالأحْبَارُ} وهم الَّذين يملكون الخبرة من علماء اليهود السائرين على خط التوراة ،فهؤلاء وأولئك يحكمون بين النَّاس{بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ} الَّذي أرادهم الله أن يحفظوه بكل حقائقه من دون تحريف أو تغيير كوديعةٍ مضمونة ،{وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} من خلال المعرفة التفصيليّة الّتي يملكونها ،والمسؤوليّة الّتي يتحملونها في إبلاغها للنَّاس فلا يكتمونها عنهم ،{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} في كتاب الله ورسالته ،لأنَّ الله أرادكم أن تأخذوا الكتاب بقوّة ،وأن تبلغوا الرسالة بصلابة ،فلا تأخذكم في الله لومة لائم ،لأنَّ ذلك هو دور رسل الله بما حمّلهم من رسالته ،أن يجاهدوا في الله حقّ جهاده بلا خوف ولا وجل ،لأنَّ الله ينصر عباده المؤمنين ،{وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا ولا تستعيضوا بحيث تبيعون دينكم بالثمن البخس الَّذي لا يسمن ولا يغني من جوع ،أو بمالٍ تحصلون عليه أو جاهٍ تصلون إليه ،فذلك هو دليل الإيمان بالله ورسالاته ،لأنَّ الإيمان ليس مجرد كلمةٍ يقولها المؤمن ويتابع سيره من دون التزام عمليّ ،بل هو التزام حركي حاسم يقف فيه الإنسان مع أحكام الله ،فلا يقدِّم رجلاً ولا يؤخر أخرى حتَّى يعلم أنَّ في ذلك لله رضى .
للكافر درجات ومراتب
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} بالمعنى العملي للكفر في إيحاءاته والتزاماته ونتائجه ،فإنَّ للكفر درجات ومراتب تبعاً لما في الإيمان من درجات تبدأ من الإيمان القلبي ،لتمتد إلى الإعلان عنه باللسان ،لتصلفي الدرجة العلياإلى الإيمان العملي الَّذي يعمل على تغيير واقع الإنسان من الضلال إلى الهدى ،ومن الانحراف إلى الاستقامة ،هذا كله إذا كان عدم الحكم بما أنزل الله ناشئاً من حالة الخوف أو من حالة الطمع ،أمَّا إذا كان ذلك ناشئاً من إنكار شرعيته وواقعيته أو الاستهانة به من جهة عدم الإيمان بكتاب الله ورسوله ،فإنَّه يكون كفراً التزاميّاً يشمل العقل واللسان والحركة .
وهذا هو الخط المستقيم الَّذي لا بُدَّ للدعاة إلى الله من رسل وعلماء ومفكرين أن يلتزموه ،وأن يواجهوا بالتالي ،كل التحديات الكافرة والضالة والمنحرفة ،بالحقائق الإيمانيّة الواضحة بالقوّة الفكريّة والعمليّة ،لأنَّ القوّة لا بُدَّ من أن تقابل بمثلها .