{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَما أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} .يستنكر القرآن لجوء هؤلاء إلى تحكيم الرسول الَّذي لا يؤمنون به ،وهم يعرفون أنَّه الحكم الَّذي جاءت به التوراة ،وهو حكم الله الَّذي لا يتغير ولا يتبدل مهما تغيرت الرسالات واختلف الرسل ،لأنَّه الحكم الَّذي ينطلق من مصلحة الإنسان الحقيقيّة الَّتي لا يدخل في حسابها اختلاف الزمان والمكان ،ثُمَّ يتولون بعد ذلك عن حكم الله ويعرضون عنه ،وهذه نقطة سلبيّة يسجلها القرآن عليهم ليقدّم للمسلمين الصورة القلقة الّتي تُمثِّل واقع هؤلاء الَّذين آثروا الدنيا باسم التوراة ،ليحصلوا على المواقع المتقدمة في حياة النَّاس باسمها ،ولكنَّهم كانوا أوّل من يتنكر لحكم التوراة عندما اختلفت مصالحهم وأطماعهم معه .
ماذا نستوحي من هذه الآيات ؟
إنَّنا نستوحي من هذه الآيات بضع نقاط:
أولاً: الانطلاق من مواقع هذه الآية ،الّتي لم ترد أن تتوقف عند هذه الحادثة ،إلى المواقع المماثلة لها ،وفي ضوء ذلك يمكن لنا أن نرصد هذه النماذج في الكثير من الفئات الّتي لا تقف مع خط الصدق في حياتها وحياة الآخرين ،بل تعمل على ممارسة الكذب في سلوكها وسلوك الآخرين ،فهي تكذب وتستمع للكاذبين ،ولا تتوقف عند حدود الله في حلاله وحرامه ،بل تتجاوزها ،فتأكل الحرام بطريقة الّلامبالاة أو التمرد ،وقد يدفعها هذا الموقف إلى التذبذب والارتباك في المواقف ،فإذا رأت هناك حالةً ضاغطةً على مصالحها من خلال التطبيق الدقيق لما تؤمن به من شريعةٍ أو تسير عليه من قانون ،انحرفت عنه إلى شريعةٍ أخرى وقانونٍ آخر ،لأنَّ القضيّة عندها ليست قضيّة حماية المبادىء من الاهتزاز والانحراف ،بل قضيّة حماية المصالح من الضياع ،ما يجعل حياتها مسرحاً لأكثر من شريعةٍ وقانون ،مهما اختلفت قواعدها الفكرية والتشريعيّة ،الأمر الَّذي يبعد المجتمع عن الاستقرار والاطمئنان .
ثانياً: وقد نستطيع استيحاء هذه الآيات في التأكيد على قيمة الصدق والالتزام بالحلول ،في الاستقامة على الخط السليم في جانب العقيدة والعمل ،وذلك من خلال ما يفرضه على الإنسان من التوازن والتماسك والاتزان ،ليكون الأساس عنده رضى الله في ما يريده من مصلحة الإنسان العامّة بعيداً عن كل المحاور الشخصيّة والفئويّة ،ما يجعله يواجه الآخرين من خلال هذا الموقع في ما يتحدثون به ويدعونه إليه من موقف ،فلا يسمع للكاذبين ،ولا يصغي للخائنين الَّذين يحرّفون الكلم عن مواضعه ،ولا ينطلق في عملٍ أو معاملة إلاَّ إذا عرف أنَّه مما أحلّه الله لعباده .وبذلك ينطلق الإنسان من قاعدة الرسالة في قيمها الأصيلة ،لا من موقع المزاج في شهواته المضطربة .
ثالثاً: إنَّ الآيات الكريمة ،في قوله تعالى:{وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} توحي بأنَّ الشرائع الإلهيّة تتداخل في أحكامها ،كما تتداخل في مفاهيمها ،فليس هناك تعارضٌ واختلافٌ بين الرسالات ،إلاَّ في ما كانت حيثياته خاضعةً لزمانٍ أو مكانٍ معينين ،وهذا ما ينسخه الله في ما ينسخه من أحكامه ،أمَّا الَّذي ينطلق من حالة الإنسانيّة في عمقها الإنساني بعيداً عن الزمن ،فهو الحكم الثابت الَّذي يتحرك مع الرسالات ليمثِّل استمرار الشريعة وامتدادها مع كل الأنبياء .وفي هذا الجو ،يمكن أن نواجه الحوار حول الأديان ،وذلك بالروحيّة الّتي تعيش في داخل المؤمنين لتوحي لهم بأنَّ هناك أكثر من موطن لقاء بإزاء ما يخيّل إليهم من مواطن الخلاف .وإذا كان القرآن قد تحدَّث إلينا بأنَّ هناك تحريفاً في التوراة من قِبَل أهلها الَّذين ينتسبون إليها ،فقد انطلق الحديث عن قضايا خاصة ،أمَّا في غير ذلك ،فإنَّ القرآن قد صرّح بأنَّها الكتاب الَّذي يلتقي بالقرآن في أكثر الأحكام والمفاهيم .وقد كان الرسول( ص ) يحتج عليهم بالتوراة في مجال إثبات حكم الله الحق الَّذي يلتقي فيه القرآن بالتوراة .
رابعاً: إنَّ بداية هذه الآيات الّتي أكدت على الرسول( ص ) بأن لا يحزن من خطوات هؤلاء الَّذي يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود وغيرهم ،توحي بأنَّ على الداعية لله ،العامل في سبيله ،أن لا يتعقد أو يشعر بالانسحاق إزاء الحالات الضاغطة التي تواجهه في خطوات الكفر والنفاق ،بل عليه العمل على تفريغ نفسيته من كل الانفعالات السلبيّة ليواجه الموقف بالتخطيط العملي الَّذي يرصد السلبيات ،ليتعامل معها بروح التحدي الَّذي يحولها إلى إيجابياتٍ عمليّة لمصلحة الدعوة والعمل الرسالي ،فلا مجال للحزن الذاتي في حركة الداعية إلى الله ،لأنَّه لا يعيش الأجواء الذاتيّة المجرّدة في حياته ،لأنَّ كل حياته للعمل ،وكل خطواته للعمل ،فهي حركة في صعيد الواقع ،لا حالة في داخل الذات .
هل يجوز تحاكم غير المسلم عند القاضي المسلم ؟
هذا وقد أثار المفسرون والفقهاء مسألة وظيفة القاضي المسلم في النظام الإسلامي إذا تحاكم لديه شخصان من غير المسلمين ،فهل يجب عليه أن يحكم بينهما ،أو لا يجب عليه ذلك تعييناً ،بل هو مخيّرٌ بين قبول الدعوى والنظر في تفاصيلها ،وبين الإعراض عنها وترك قبوله الدعوى بحسب ما يراه من المصلحة في خصوصيّة القضيّة ،أو في أصل موضوع الحكم في طبيعته ؟
وقد ذكروا اتفاق الفقهاء على أنَّ غير الذمّيين إذا تخاصما لدى القاضي المسلم ،فللحاكم الخيار بين الرفض للدعوى أو قبولها تبعاً لما يراه من المصلحة من خلال النتائج السلبيّة أو الإيجابيّة على الصعيد العام أو الخاص .
أمَّا إذا كان المتخاصمون من أهل الذمة ،فقال علماء أهل السنَّة بأنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم إذا تحاكموا إليه ،لكن في رأي مالك وأبي حنيفة ومحمَّد بن الحسن: لا يحدّ الذميون حدّ الزنى .ورأى الشافعي وأبو يوسف: أنهم يحدّون إن أتوا راضين بحكمنا .
وذهب أبو حنيفة والنجفي وعمر بن عبد العزيز إلى أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِما أَنزَلَ اللَّهُ} [ المائدة: 49] وأنَّ على الحاكم أن يحكم بين أهل الذمة .وهو رأي ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة .
وقال فقهاء الشيعة الإمامية: بل هو مخيّر إن شاء حكم وإن شاء رفض .ولم يثبت نسخ الآية بالآية المذكورة ،أمّا إذا كان أحد المتحاكمين مسلماً والآخر غير مسلم ،فيجب على الحاكم قبول الدعوى .
ولا بُدَّ في حالة قبول الدعوى في جميع الحالات ،من الحكم بالعدل بما أنزل الله ،وربَّما يخطر في البال أنَّ المسألة قد تأخذفي بعض المراحلبعداً كبيراً في مصلحة النظام الإسلامي في نطاق الدولة الإسلاميّة من المسلمين وغير المسلمين ،حيث تفرض المصلحة العليا عدم التفرقة بينهم .
وقد تكون المصلحةفي بعض الحالاتإعطاء أهل الذمة أو المعاهدين الحرية في أن يكون لهم نظامٌ خاصٌ في القضاء بحسب ما يدينون به ،لأنَّ ذلك أقرب إلى تحقيق الحل للمشاكل من خلال اقتناعهم بالأحكام الصادرة عن مرجعياتهم .
إنَّ التخيير بين القبول والرفض قد يوحي ببعض ذلك في الحالة الجزئيّة الواحدة ،أو في الحالات الكليّة مما قد يجد فيه ولي الأمر الفرصة الشرعيّة لإدارة الأمور بالطريقة المناسبة والمتناسبة مع المصلحة الإسلاميّة العليا .