هذه الجملة عطف على جملة{ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعْرض عنهم}[ المائدة: 42] .والاستفهام للتعجيب ،ومحلّ العجب مضمون قوله:{ ثمّ يتولّون من بعد ذلك} ،أي من العجيب أنّهم يتركون كتابهم ويحكّمونك وهم غير مؤمنين بك ثُمّ يتولّون بعد حكمك إذا لم يرضهم .فالإشارة بقوله:{ من بعد ذلك} إلى الحكم المستفاد من{ يُحكّمونك} ،أيّ جمعوا عدم الرضى بشرعهم وبحكمك .وهذه غاية التّعنّت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين ،كما وصف الله حال المنافقين في قوله:{ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين}[ النور: 48 ،49] .ويحتمل أنّ الاستفهام إنكاري ،أي هم لا يحكّمونك حقّاً .ومحلّ الإنكار هو أصل ما يدلّ عليه الفعل من كون فاعله جادّاً ،أي لا يكون تحكيمهم صَادقاً بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم ،لأنّ لديهم التّوراة فيها حكم مَا حَكَّموك فيه ،وهو حكم الله ،وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم ،ولذلك قدّروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم ،فما هم بمحكِّمين حقيقة .فيكون فعل{ يحكّمونك} مستعملاً في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه ،كقوله تعالى:{ يحْذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا}[ التوبة: 64] الآية .ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله:{ من بعد ذلك} إلى مجموع ما ذكر ،وهو التّحكيم ،وكون التّوراة عندهم ،أي يتولّون عن حكمك في حال ظهور الحجّة الواضحة ،وهي موافقة حكومتك لحكم التّوراة .
وجملة{ وما أولئك بالمؤمنين} في موضع الحال من ضمير الرفع في{ يحكّمونك} .ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلّقه للإشارة إلى أنّهم ما آمنوا بالتّوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقاً .
وضمير{ فيها} عائد إلى التّوراة ،فتأنيثه مراعاة لاسم التّوراة وإن كان مسمّاها كتاباً ولكن لأنّ صيغة فعلاة معروفة في الأسماء المؤنّثة مثل مَومَاة .وتقدّم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى:{ وأنزل التّوراة والإنجيل} في سورة آل عمران ( 3 ) .