/م41
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} هذا تعجيب من الله لنبيه ببيان حال من أغرب أحوال هؤلاء القوم .وهو أنهم أصحاب شريعة يرغبون عنها ويتحاكمون إلى نبي جاء بشريعة أخرى وهم لم يؤمنوا به .أي وكيف يحكمونك في قضية كقضية الزانيين أو قضية الدية والحال أن عندهم التوراة التي هي شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه ، ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته لها ؟ أي إذا فكرت في هذا رأيته من عجيب أمرهم ، وسببه أنهم ليسوا بالمؤمنين إيمانا صحيحا بالتوراة ولا بك ، وإنما هم ممن جاء فيهم{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} [ الجاثية:23] فإن المؤمن الصادق بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول ، أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك باختلاف أحوال عباده .وهؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها واتباعها لأنه لم يوافق هواهم .وجاءوك يطلبون حكمك رجاء أن يوافق هواهم ، ثم يتولون ويعرضون عنه إذا لم يوافق هواهم .فما هم بالمؤمنين بالتوراة ولا بك ، ولا بمن أنزل على موسى التوراة وأنزل عليك القرآن ، وقد يقولون إنهم مؤمنون وقد يظنون أيضا أنهم مؤمنون ، غافلين عن كون الإيمان يقينا في القلب ، يتبعه الإذعان بالفعل ، ويترجم عنه اللسان بالقول .ولكن اللسان قد يكذب عن علم وعن جهل ، فمن أيقن أذعن ، ومن أذعن عمل ، لأن الإيمان الإذعاني هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة ، والإرادة هي المصرفة للجوارح في الأعمال .
أما حكم الرجم في التوراة التي بين أيدينا فهو خاص ببعض الزناة .قال في الفصل 22 سفر التثنية بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها:( 22 إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان ، الرجل المضطجع مع المرأة ، فتنزع الشر من إسرائيل 23 إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا – الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة ، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه فتنزع الشر من وسطك ) ثم ذكر أحكاما أخرى في الزنا ، منها قتل أحد الزانيين ومنها دفع غرامة والتزوج بالمزني بها .
ومما يجب التنبيه له هنا أن دعاة النصرانية يحتجون بهذه الآية وما في معناها على كون التوراة التي في أيديهم وأيدي اليهود هي ما أنزله تعالى على موسى لم يعرض لها تغيير ولا تحريف .وذلك أنهم كأولئك اليهود الذين يأخذون من القرآن ما يوافق أهواءهم ويردون ما يخالفها جدلا .والمؤمنون يؤمنون بالكتاب كله ، فالكتاب بين لنا أن عندهم التوراة أي الشريعة ، وأن فيها حكم الله في القضية التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد صدق الله تعالى وهو أصدق القائلين .وبين لنا أيضا أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ومن بعد مواضعه وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به وإنما أوتوا نصيبا من الكتاب إذ نسوا نصيبا آخر وأضاعوه .وقد صدق الله تعالى في ذلك أيضا .ولما خرجت أمة القرآن من الأمية وعرفوا تاريخ أهل الكتاب وغيرهم كالبابليين ظهر لهم أن إخبار القرآن بذلك كان من معجزاته الدالة على أنه من عند الله ، إذ ظهر لهم أن اليهود قد فقدوا التوراة التي كتبها موسى ثم لم يجدوها ، وإنما كتب لهم بعض علمائهم ما حفظوه منها ممزوجا بما ليس منها ، والتوراة التي في أيديهم تثبت ذلك ، كما بيناه في غير هذا الموضع .ومنه تفسير أول سورة آل عمران وتفسير الآية 14 و15 من هذه السورة .