{ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك}
/م42
الاستفهام هنا للتعجب واستنكار حالهم ، أي أن حالهم حال مستنكرة . عندهم النص الصريح في القضية التي يتحاكمون فيها ، ومع ذلك يلتمسون الحكم في غير ما عندهم رجاء أن يكون على ما يهوون ويبتغون ، وإن كان غير ما يؤمنون فهم ممن اتخذ إلهه هواه ، وممن يريدون أن يتبع الحق أهواءهم ، لا أن تكون أهواءهم تابعة للحق تسير في مداره ، ولا تخرج عن إطاره والتعجب والاستنكار يتجهان إلى أمرين:
أولهما أنهم يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الحكم عندهم في التوراة صريح لا مجال للريب ، فلماذا يعدلون عن تنفيذ ما عندهم إلى طلب شيء عند النبي عليه الصلاة والسلام ، إلا أن يكونوا مؤمنين بصدق ما جاء به ، وذلك لم يكن منهم .
والأمر التالي الذي هو موضوع الاستنكار والعجب أنهم يطلبون من النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم يعرضون من بعد بيانه لهم . فهم متناقضون في جملة أحوالهم يطلبون الحكم ممن لا يؤمنون بدعوته ، مع أن الحكم صريح فيما يؤمنون ثم يعرضون عن الحكم الذي يتلاءم مع ما عندهم .
ويلاحظ أن القرآن الكريم يقرر أن التوراة فيها حكم الله في المسألة التي يختصمون إلى النبي عليه الصلاة والسلام في أمرها ، فهي تصديق للتوراة في تلك الجزئية ، وهي إقامة حد الزنا دون غيرها ، فليس لأحد أن يحتج بأن القرآن يقر أحكام التوراة التي كانت بأيدي اليهود في عصر النبي عليه الصلاة والسلام والتي بأيديهم في هذه الأيام ، فإن تصديق ما بأيديهم في جزئية من الجزئيات لا يقتضي تصديقها في كل ما جاء بها مما في أيديهم ، فقد نسوا حظا مما ذكروا به ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ولا شك أن التحريف لم يتناول الجميع ، بل لا تزال فيها أثارة مما نزل على موسى .
ومن المباحث اللفظية في النص الكريم التعبير ب "ثم"، وبقوله تعالى "من بعد ذلك"، في قوله تعالى:{ ثم يتولون من بعد ذلك} .
فإن التعبير ب "ثم"، والبعدية والإشارة للبعيد للتفاوت النفسي المنطقي الكبير والتراخي المعنوي بعد الاحتكام إلى النبي عليه الصلاة والسلام والإعراض عن قوله بعد أن بين حكم التوراة فيما يحتكمون ، ولكن المنافق المبطل في مفارقات مستمرة بينه وبين الحق ، والمنطق السليم والعقل المستقيم .
{ وما أولئك بالمؤمنين} في هذا النص الكريم نفي لصفة الإيمان المطلق عن اليهود وأشباههم ممن يجعلون الحق تبعا لأهوائهم ، والله سبحانه وتعالى ينفي صفة الإيمان بأي عقيدة أو مذهب ، لأن الإيمان يقتضي طلب الحق وإدراكه والإذعان له وهذه ليست صفات هؤلاء ، فهم لا يطلبون حكم الحق بل يطلبون حكم الهوى ، وأركسوا في الأهواء فلا يدركون ، وبعدوا عن المنهاج المستقيم فلا يذعنون ، فهم لا يؤمنون بالتوراة وإلا أذعنوا لحكمها ، ولا يؤمنون بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام لأنهم جحدوا قوله وناوءوه ، وناصبوه العداء فهم لا يؤمنون بشيء .
والإشارة في قوله تعالى:{ وما أولئك بالمؤمنين} إليهم بأوصافهم كلها من أنهم لا تستمرئ أسماعهم إلا الكذب . ويأكلون أموال الناس بالباطل ويتميلون بالحق ، ويفرقون في الحكم بين القوي والضعيف ومن كان هذا شأنهم لا يمكن أن يدخل شيء من الإيمان قلوبهم . . اللهم احفظ الناس من شرهم ، وهبنا الإيمان الصادق والإذعان للحق .