{ سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين( 42 ) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين( 43 )} .
/م42
{ سماعون للكذب أكالون للسحت} هذا وصف للذين يسارعون في الكفر عامة وفي اليهود خاصة ، وهم مرنوا على سماع الباطل واستمرءوه وأضافوا إلى ذلك وصفا من بابه ، وهو أنهم يستمرئون المال الخبيث الذي ينبت من باطل ، وإذا كانت آذانهم تستمرئ باطل القوة وزوره ، فأفواههم وذممهم تستمرئ أكل أموال الناس بالباطل ، والسحت كما يفهم من مصادر اللغة وآثار التابعين والصحابة ، كل كسب يكون بطريق آثم ، ومن ذلك الرشوة والربا ، وأخذ الأجور في الشفاعات ، وقد سئل عبد الله بن مسعود عن السحت ، فقال:الرجل يطلب الحاجة للرجل فيقضيها فيهدي إليه هدية فيقبلها{[929]} ، وإذا كانت الهدية في مقابل قضاء الحاجات سحتا ، فماذا يكون كسب الجاه والمال والمناصب ، وما تدر عليه من مال بطريق النفاق والفتاوى الباطلة في الدين ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به"{[930]} .
وذكر الطبري الأصل اللغوي لكلمة سحت ، فقال:"وأصل السحت{[931]} كلب الجوع ، يقال:فلان مسحوت المعدة ، إذا كان أكولا ، لا يلفى أبدا إلا جائعا ، و إنما قيل للرشوة السحت تشبيها بذلك ، كأن بالمسترشي من الشره إلى أخذ ما يعطاه من ذلك – مثل الذي بالمسحوت – المعدة من الشره إلى الطعام ، يقال منه:سحته ، وأسحته لغتان محكيتان عن العرب . . . ومنه قوله تعالى:{. . .فيسحتكم بعذاب . . . ( 61 )}( طه ) .وتقول العرب للحالق:"اسحت الشعر ، أي استأصله".
ونرى أن ابن جرير ذكر الرشوة فقط هنا ، وإن كان السحت يشمل أكل مال الناس بالباطل ، ولو كان هدية في نظير مسعى حميد كما ذكرنا عن ابن مسعود ، وقد روي عن مسروق التابعي أنه شفع لرجل في حاجة ، فأهدى إليه جارية فغضب غضبا شديدا ، وقال:لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ولا أكلم فيما بقي من حاجتك ، سمعت ابن مسعود يقول:"من شفع شفاعة ليرد بها حقا ، ويرفع بها ظلما فأهدي له فقبل فهو سحت".
وإن هذا الكلام المروي يبدو منه أمران:أحدهما أن كل أكل لمال الغير بالباطل يعد سحتا سواء أكان برضاه أم كان بغير رضاه . وثانيهما أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا لفرط إيمانهم بالحق ووجوب نصرته يرون أن نصرة الحق ودفع الباطل يجب أن تكون لله ، وأنه لا يصح أخذ أجر في نظيرها ، ولو كان هدية تعطى في مسمحة ومحبة ، حتى لا يرنق قول الحق بغرض من أغراض الدنيا وحتى لا يستغل الجاه ، ولكي تعلو معنويات الأمور ولا تسيطر مادياتها .
وإن اليهود قد اشتهروا بالسحت وخصوصا في الحكم ، وقد أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بشرعته رجاء أن يكون في حكمه ما هو أخف من حكم ما عندهم ، لا طاعة لحكمه ، وخصوصا للحق عنده ولذا قال سبحانه:
{. . .فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} يومئ هذا النص الكريم إلى أنهم سيتحاكمون إليه ، وقد تحاكموا إليه بالفعل لا طلبا للحق والعدل ، ولكن رجاء التخفيف عمن أرادوا التخفيف عنه ، وروي في موضوع التحاكم الذي ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم فيه عدة روايات تنتهي إلى خبرين:
أولهما:أنهم كانوا يقيمون حد الزنا ، إلى أن زنا منهم شاب ذو شرف ، فقال بعضهم لبعض ، لا يدعكم قومه ترجمونه ، ولكن اجلدوه فجلدوه ، وحملوه على إكاف حمار ( برذعة ) وجعلوا وجهه قبل ذنب الحمار ، ثم زنا بعد ذلك وضيع ليس له شرف وليس له من يحامي عليه ، فقالوا:ارجموه ثم وجد من بينهم من استنكر تلك التفرقة ، فقالوا:كيف لم ترجموا الذي قبله ، ولكن اصنعوا بهذا مثل ما صنعتم بسابقه ، ثم قالوا:سلوه لعلكم تجدون عنده رخصة .
وكأنهم استثقلوا إقامة الحد ، وأرادوا أن يترخصوا ويقبلوا حكم النبي صلى الله ليه وسلم فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم توراتهم يجب أن ينفذ ، وأنه لا يصح الفرار من هذا الحكم ، وإن ذل الأمم يكون إذا غيرت الأحكام فيها لأجل الأقوياء ، وبدلت على حسب الأهواء .
ثانيها:أن اليهود ما كانوا يعدلون فيما بينهم ولا تتكافأ دماءهم في نظرهم ، فكانت قريظة إذا قتلت قتيلا من بني النضير كانت تجب الدية كاملة في حال وجوب الدية ، وإذا قتلت النضير من قريظة كانت نصف الدية لشرف في الأولى ونقص في الثانية ، ويروى أنهم كانوا إذا قتل رجل من بني النضير قرظيا لا يقتل به ووجبت الدية ، وإذا كان المقتول نضيريا قتل به ، فكانت في عصر النبي صلى الله عليه وهو بينهم دماء ، فتحاكموا فحكم بالتسوية لأن ذلك هو العدل وهو حكم التوراة .
وقد خير الله تعالى نبيه في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم ، ولماذا كان ذلك التخيير ، وإقامة العدل واجبة وقد مكن من إقامته بتحكيمهم ؟ والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا ذلك التخيير ، ليتعرف أمرهم ، فإن كانوا يريدون الحق ويطلبونه ويذعنون له استجاب للأمر وحكم ، وإن كان يعلم أنهم جاءوا مغرضين في قلوبهم مرض ، لا ينفذون إلا ما يتفق مع أهوائهم وليسوا خاضعين لسلطانه ينفذ فيهم الحق الذي يراه ، أما الذين يكونون تحت سلطانه وينفذ الحق فيهم ، فإنه لا تخيير بل يقضي بينهم ، وكذلك الأمر من بعده صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قرر الفقهاء أن الذميين في المعاملات المالية والزواجر الاجتماعية خاضعون للأحكام الشرعية ، ولا يجيز الحاكم في الحكم بينهم بشرع الله تعالى ، لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، أما رعايا الدول الأخرى الذين يقيمون في ديارهم ويربطهم بالمسلمين الجوار وميثاق عدم الاعتداء ، كما كان الشأن في يهود المدينة في أول أمرهم ، قبل أن تظهر خيانتهم ويضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى إجلائهم .
وهنا ملاحظة لفظية ، وهي في قوله تعالى:{ فإن جاءوك فاحكم بينهم} . لماذا كان التعبير ب "إن"الدالة على الشك ولم يكن التعبير ب "إذا"الدالة على التحقيق ، مع أنهم جاءوا إليه فعلا ؟ والجواب عن ذلك أن الشك كان بالنسبة لحالهم ، فهم كانوا مترددين في التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم بعد الحكم لم ينفذوا ، فحالهم حال شك ابتداء وحال شك انتهاء ، وعدم إذعان في الحالين ، لأن في قلوبهم كما قال تعالى في أشباههم:{ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله . . .( 50 )}( النور ) .
ولقد زعم بعض العلماء أن الحكم الشرعي كان هو التخيير عند تحاكم غير المسلمين ثم نسخ وصار الحكم لازما ، والحق أن التخيير لا يزال قائما بالنسبة لغير المسلمين الذين يطلبون حكم الإسلام من الحاكم المسلم لينفذوه في ديارهم ، والتخيير ليتعرف الحاكم حالهم ، فيحكم حتما إن كانوا طلاب حق ، وله أن يرفض إن كان في قلوبهم مرض ، ولا ضرر من الإعراض ولذلك قال سبحانه:{ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا} .
وإنه في حال الإعراض يصاب أولئك الذين يريدون الحكم لهواهم لا للحق في ذاته بخيبة أمل قد تحرك فيهم عناصر الضغينة والمقاومة ، وإشاعة قالة السوء عن النبي صلى الله عليه وسلم فبين الله سبحانه وتعالى في ذكره الحكيم أنه لا تضره هذه الأفعال ، وقد نفى سبحانه وتعالى الضرر نفيا مؤكدا ب "لن"، لبيان أنهم لا طاقة عندهم في أن يضروه ، وكان نفي الضرر في هذا المقام له مغزاه ، لأن احتكامهم إليه صلى الله عليه وسلم فيه نوع من المسالمة والإذعان في الظاهر لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو إعلان للتصديق ، فإذا أعرض ، فقد يكون ثمة احتمال الضرر الذي ينال الدعوة الإسلامية ، وشدة لجاجتهم في الباطل ، فنفي الله سبحانه وتعالى ذلك الضرر لأن الإعراض يكون حيث يدرك النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا مجال لأن ينفذوا ما يحكم به ، وأنهم يريدون أن يطوعوا أحكامه لأهوائهم ، أو يتأولوها بغير المقصود منها ، فيكون أكرم للدعوة وأكرم لمقامه عليه الصلاة والسلام أن يذرهم في غيهم يعمهون ، والله سبحانه وتعالى غالب على أمرهم .
{ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} القسط هو:النصيب بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط ، وتوصف به الأعمال الطيبة فقد قال تعالى:{. . .ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط . . .( 4 )}( يونس ) .وقال تعالى:{ وأقيموا الوزن بالقسط . . .( 9 )} ( الرحمان ) .
والقسط أخذ نصيب غيره ، والإقساط إعطاء غيره نصيبه غير منقوص ، ولذلك قال العلماء:إن القاسط هو الظالم ، ولذا قال تعالى:{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا( 15 )}( الجن ) . والمقسط هو العادل ، ومنه قوله تعالى:{ إن الله يحب المقسطين} . والمعنى الجملي للنص الكريم:إن اخترت أن تحكم بينهم لرجاء أن ينفذوا الحكم ويذعنوا له ، فلا تتبع أهواءهم واحكم بالعدل والقسطاس المستقيم ، وذلك العدل بين الله تعالى حكمه ، وشرع لزومه في كتبه المقدسة فإذا كان هناك زنا فالقسط أن يحكم بالحد ، لا فرق بين شريف وضعيف وقادر وغير قادر ، بل الجميع أمام الحق على سواء ، فالقسط هو إعطاء كل ذي حق حقه ، وتنفيذ حدود الله تعالى بالمساواة ، فلا يعفى منها شريف دون ضعيف ، فإن في هذا هلاك الأمم ، وذل الشعوب .
وقد ذيل النص الكريم بقضية عامة شاملة ، وهي قوله تعالى:{ إن الله يحب المقسطين} . وفي ذلك تزكية للعدل وتأكيد لطلبه فقد أكد الكلام بالجملة الاسمية و ب "إن"المأكدة ، وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة ، وببيان أن محبة الله تعالى لا تكون إلا للعادلين المقسطين الذين لا يجورون ، وكان التعبير ب "إن"في قوله تعالى:{ وإن حكمت فاحكم بينهم} وهي تفيد الشك في اختياره عليه الصلاة والسلام الحكم بينهم لأنهم ليسوا طلاب حق وإنصاف بل يريدون الحكم كما يهوون ، والدليل على أن اليهود ليسوا طلاب حق أن التوراة التي بأيديهم فيها الحكم صريح في الموضوع الذي تحاكموا فيه .