قوله تعالى:{سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ( 42 ) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} .
كرر قوله:{سماعون للكذب} على سبيل التأكيد والتفخيم .والمراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة وما كان يفتريه الأحبار من أكاذيب وتحريف للتوراة .أما السحت فالأصل فيه أنه الهلاك والاستئصال .أسحت أي استأصل .والمراد هنا بالسحت المال الحرام أو ما خبث من المكاسب فيلزم عنه العار .وقد سمي سحتا ،لأنه يسحت الطاعات ويسحت البركة أي يذهبها ويستأصلها{[971]}وقيل: سمي الحرام سحتا ،لأنه يسحت مروءة الإنسان .فإنه بذهاب الدين تذهب المروءة ،ولا مروءة لمن ليس له دين .وقيل: المراد به هنا الرشوة في الحكم .وفي الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل لحم نبث من سحت فالنار أولى به "قيل: يا رسول الله .وما السحت ؟قال:"الرشوة في الحكم ".وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هدايا الأمراء سحت "وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي ؟قال: لا .ولكن كفر .إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية .
وذكر الرازي في قوله:{سماعون للكذب أكالون للسحت} ثلاثة وجوه:
الأول: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه .فكان يسمع الكذب ويأكل السحت .وهو قول الحسن .
الثاني: قال بعضهم: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت الذي يأخذونه منهم .
الثالث: سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة ،أكالون للربا{[972]} .
قوله:{فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} هذا تخيير من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بين الحكم في أهل الذمة من اليهود أو الإعراض عنهم .أي إن جاءك هؤلاء متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات{فاحكم بينهم} أي بما أراك الله{أو أعرض عنهم} من غير أن تعبأ بهم أو تكثرت ،فهذا تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم بين الحكم بين أهل الذمة لدى تحاكمهم إلينا ،والإعراض عنهم .فالآية على هذا التأويل محكمة لم ينسخها ناسخ .وهو قول فريق من التابعين .
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:{وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وقد روي النسخ عن ابن عباس .وقال به أكثر السلف .وهو مذهب الحنفية والشافعية وآخرين .قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا بين الأمرين ،ثم أمره الله بإجراء الأحكام عليهم .قال النحاس في"الناسخ والمنسوخ "قوله تعالى:{فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} منسوخ ،لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير .وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم .فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل{وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وقال الشافعي في كتاب"الجزية ": ولا خيار له إذا تحاكموا إليه ،لقوله عز وجل:{حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون} أي أن من مقتضى صغارهم إجراء أحكام المسلمين عليهم .فإذا وجب ذلك كانت الآية منسوخة .
وعلى هذا وجب أن تجري على أهل الذمة أحكام الشريعة الإسلامية .ومن أقوال الحنفية في هذا المعنى: أهل الذمة محملون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه .
قوله:{وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا} قال صاحب الكشاف في تأويل ذلك: كانوا لا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم كالجلد مكان الرجم .فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم وكانوا خلقاء بإن يعادوه ويضاروه فأمن اللهسربه{[973]} .
قوله:{وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: كانت قريظة والنضير .وكان النضير أشرف من قريظة ،فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ،وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدى مائة وسق وتمر ،فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ،فقالوا: ادفعوه إلينا فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت{وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}{[974]} .
وفي الآية يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين أهل الكتاب بالعدل .والعدل بتمامه وكماله ما تضمنه شريعة الإسلام .الشريعة الربانية المميزة القائمة على الحق والعدل .
والله جلت قدرته يحب الذين يحكمون بين الناس بالحق والعدل والنصفة .أولئك سينالهم من الله فضل وجزاء كريم فوق ما ينالهم من عاطر الذكر والسيرة مما يستجيش القلوب والألسن أن تديم الثناء والدعاء للمقسطين بالخير .