ثُمَّ يكرر صفتهم الأولى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} لأنَّها هي الّتي تؤدي بهم إلى الانحراف والضياع والضلال ،ويضيف إليها صفةً ثانية ،{أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهو الحرام ،فهم يستبيحون كل شيء في سبيل مطامعهم وشهواتهم من دون التوقف على طبيعة الشيء الشرعيّة من حيث هو حلال أو حرام .تلك هي بعض ملامحهم الذاتيّة والعمليّة الّتي أراد الله من خلالها إعطاء النموذج الحي لهؤلاء النَّاس ،ليكون المؤمنون في وضوح من الرؤية ،عندما يلتقون في مراحل العمل بأمثالهم ليعرفوا كيف يتعاملون معهم ،وكيف يجتنبون شرّهم .
أمّا قصة هذا الجو ،فينقلها المفسرون في أسباب النزول كما جاء في مجمع البيان عن الباقر( ع ) في تفسير هذه الآية ،أن امرأةً من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان ،فكرهوا رجمهما ،فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعاً في أن يأتي لهم برخصة ،فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وشعبة بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم ،فقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما ؟فقال: وهل ترضون بقضائي في ذلك ؟قالوا: نعم ،فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به .فقال جبرائيل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ،ووصفه له ،فقال النبي: هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدكاً يقال له ابن صوريا ؟قالوا: نعم ،قال: فأيّ رجل هو فيكم ؟قالوا: أعلم يهوديّ بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى ،قال: فأرسلوا إليه ،ففعلوا ،فأتاهم عبد الله بن صوريا ،فقال له النبي: إني أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى ،وفلق لكم البحر ،وأنجاكم وأغرق آل فرعون ،وظلَّل عليكم الغمام ،وأنزل عليكم المنَّ والسلوى ،هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ؟قال ابن صوريا: نعم ،والذي ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني ربُّ التوراة إن كذبت أو غيَّرت ما اعترفت لك ،ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمد ؟قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم ،قال ابن صوريا: هكذا أنزل الله في التوراة على موسى ،فقال له النبي: فماذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله ،قال: كنا إذا زنى الشريف تركناه وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد ،فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا ،فلم نرجمه ثم زنى رجل آخر ،فأراد الملك رجمه ،فقال له قومه: لا حتى ترجم فلاناً ،يعنون ابن عمه ،فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون على الشريف والوضيع ،فوضعنا الجلد والتحميم ،وهو أن يجلد أربعين جلدة ثم يسوّد وجوههما ثم يحملان على حمارين ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما ،فجعلوا هذا مكان الرجم ،فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما أتينا عليك بأهل ولكنّك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك ،فقال: إنه أنشدني بالتوراة ولولا ذلك لما أخبرته به ،فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده وقال: أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ،فأنزل الله فيه:{يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عن كَثِيرٍ} فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثم قال: هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه ،فأعرض النبي عن ذلك ،ثم سأله ابن صوريا عن نومه فقال: تنام عيناي ولا ينام قلبي ،فقال: صدقت ،وأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمه شيء أو بأمه ليس فيه من شبه أبيه شيء ،فقال: أيهما علا وسبق ماء صاحبه كان الشبه له ،قال: قد صدقت ،فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه ،قال: فأغمي على رسول الله طويلاً ثم خلي عنه محمرّاً وجهه يفيض عرقاً ،فقال: اللحم والدم والظفر والشحم للمرأة ،والعظم والعصب والعروق للرجل ،قال له: صدقت أمرك أمر نبي ،فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال: يا محمد من يأتيك من الملائكة ؟قال: جبرائيل ،قال: صفه لي ،فوصفه النبي( ص ) ،فقال: أشهد أنه في التوراة كما قلت وأنك رسول الله حقاً .فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه ،فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريضة ببني النضير ،فقالوا: يا محمد أخواننا بنو النضير ،أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد ،إذا قتلوا منّا قتيلاً لم يُقد وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر ،وإذا قتلنا منهم قتيلاً قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر ،وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا وبالرجل منهم رجلين منا وبالعبد الحر منا وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم ،فاقض بيننا وبينهم ،فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات[ 2] .
وإن حكمت فاحكم بالعدل
وإنَّنا نرى من خلال هذه القصةالّتي اختلف المفسرون في بعض تفاصيلهارجوع اليهود إلى الرسول( ص ) ليتفادوا حكم التوراة بالرجم للزاني والزانية المحصنين ،وذلك لتعارض هذا الحكم مع أوضاعهم الاجتماعية القائمة على الطبقيّة المقدسة أكثر من تقديسهم لحكم الله تعالى ،وقد أجاز الله لرسوله بالحكم فيما بينهم أو الإعراض عنهم ،{فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وذلك من أجل ملاحظة بعض الاعتبارات السلبيّة في هذه القضيّة أو غيرها ،{وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} لأنَّهم لم يكونوا بصدد الانسجام مع الخط الَّذي يريدهم أن يسيروا عليه .{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} أي بالعدل ،الَّذي هو حكم الله الَّذي لا يتغير في التوراة ،أو القرآن ،و{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الَّذين يحكمون بالعدل ،بعيداً عن الاعتبارات الشخصيّة والاجتماعية .