القرآن والتصدي الواقعي لظاهرة النفاق
وهذه صورةٌ حيّةٌ من صور البلبلة الّتي كانت تسود مجتمع المدينة ،بفعل ما كان يثيره المنافقون واليهود من مشاكل وأزمات داخل المجتمع الإسلاميّ ،ممّا أثقل قلب النبيّ( ص ) حزناً وقلقاً وألماً رسالياً إلى أقصى الحدود ،فهموم النبوة لا يمكن فصلها عن هموم الرسالة ،لأنَّ الهم الشخصي والذاتي للنبوة يذوب في الهم الرسالي ،لدرجة أنَّه لا يمكن تفكيك أحدهما عن الآخر .فالنبيّ في كل حركاته ومواقفه وتطلعاته ،في كل آماله وأشواقه ،في كل آلامه وأحزانه ..في حضوره التاريخي ،إنَّما يفعل وينفعل بانفعالات فعل الرسالة الّتي يحملها .فعلى صعيد النبوّة ثمّة تماهٍ مطلق بين ذات النبيّ ورسالته .ولعلّ هنا بالتحديد يكمن سر العصمة ومرتكزها .ولذا جاءت هذه الآيات لتؤكد للنبي( ص ) الثقة بالمستقبل وبالهيمنة الرسالية ،إذ قضى الله بذلك ،حتَّى يكون الإسلام في موقع القوّة ،ويكون المنافقون في موقف الضعف .
ولكن من هم هؤلاء ؟وما قصة هذا الجو الَّذي أرادوا خلق البلبلة من خلاله ؟وكيف واجه القرآن الموقف في ما أراد الله لنبيّه أن يواجههم به ؟إنَّهم{الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} بالرسالة والرسول( ص ) ،والَّذين قد يتمادون بكفرهم فيسيرون إليه بخطوات واسعة ،وذلك بإنكارهم وجحدهم للخالق تبارك وتعالى ،فهم لم يؤتوا أنفسهم فرصةً للتّأمل والتفكر ،ليكون موقفهم موقف الفكر المتأمّل ،إذ القضيّة عندهم ليست قضيّة مواجهة المصير بقناعةٍ واطمئنان ،بل هي أن يحرّكوا عقدتهم أو حقدهم أو نفاقهم الَّذي انطلقوا به ضدّ الإسلام والمسلمين ،فهم{مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} وذلك رغبة أو رهبة أو تآمراً ،{وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} وهم المنافقون ،{وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ} الَّذين عاشوا في تاريخهم الأسود كل ظلمات الجريمة والتآمر على رسالات الله ورسله( ع ) ،هؤلاء الَّذين كانوا يمثلون التحالف الأسود ضد الرسول( ص ) ورسالته .
إنَّهم{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} احترفوه ممارسة ،وانسجموا معه كأسلوب عمل ،وأصغوا إليه بمسامع قلوبهم ،فهم يقبلون على كل كلمة كذب ،لأنَّها تمثل أداة التزييف للتصور وللموقف في حياة النَّاس .وذلك هو السبيل الَّذي تنجح معه مخططاتهم الشيطانيّة ،وهم{سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} لم يأتوا الرسول( ص ) ولم يجلسوا إليه ،ممن{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} فهم يريدون من النبي( ص ) أن يسير وفق أحكامهم وتطلّعاتهم الباطلة ،فإن فعل فلا مانع من الانسجام معه ،أمَّا إذا عاش مسؤوليته كرسولٍ ٍيحكم بالحق والعدل ،فلم يستجب لتصوراتهم المنحرفة ولأحكامهم المحرّفة ،فإنهم يحذّرون أصحابهم ليبتعدوا ويتمرّدوا ويثيروا الضوضاء أمام حكم الله !
لا سبيل إلى هداية من لم يأخذ بأسباب الهداية
ويُتابع القرآن الصورة بطريقة استطراديّة ،للإيحاء للنبيّ( ص ) بأنَّ عقدتهم ليست هي العقدة القابلة للحل ،بل هي العقدة المستعصية الّتي انطلقت من الرفض الذاتي الراقد في أعماقهم ،لأنَّهم لم يأخذوا بأسباب الهدى ،بل أغلقوا قلوبهم عن وعي الحق ،وعن الدخول في حوار فكري من أجله ،وأصمّوا أسماعهم عن سماع آيات الله ،وأغمضوا عيونهم عن مشاهدة دلائل الله في خلقه ،فسقطوا في امتحان التجربة الصعبة ،فحقت عليهم كلمة الله من خلال الربط بين الأسباب والمسببات ،فمن يأخذ بأسباب الكفر ويبتعد عن أسباب الهدى ،فإنَّ إرادة الله تفرض نفسها في حصول النتائج السلبيّة ،وذلك قوله تعالى:{وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} والظاهر أنَّ المراد منهابقرينة الموردفتنة الإنسان عن طريق الحق ،وذلك بإدخاله في التجربة الصعبة الّتي يؤدي انحرافه عن سبيل الحق معها إلى السقوط في مهاوي الضلال .وعلى ضوء هذا ،يكون معنى{فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أنَّه لا يستطيع هدايته لعدم توفر أسباب الهداية لديه .والله العالم .
ويتابع القرآن الفكرة في إعطاء الصورة الحقيقيّة لهؤلاء ،فهم{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} لأنَّهم لم يأخذوا بأسباب الطهارة ،في ما أنزله الله من آيات وما منحهم من فرص وخلقه لهم من أجواء ،لذا كان{لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} .