/م41
ثمّ تشير الآية إلى قسم من تصرفات هؤلاء المشوبة بالنفاق والرياء ،فتؤكد أنّهم إِنّما يستمعون كلام النّبي لا لأجل اطاعته ،بل لكي يجعلوا من ذلك وسيلة لتكذيب النّبي والافتراء عليه حيث تقول الآية: ( سماعون للكذب ) .
ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر ،هو أنّ هؤلاء اليهود يستمعون كثيراً إلى أكاذيب قادتهم وزعمائهم ،لكنّهم لا يبدون استعداداً لاستماع قول الحق والإِذعان له{[1049]} .
ثمّ تفضح الآية الصفة الثالثة لليهود ،فتبيّن أنّهم يتجسّسون على المسلمين لمصلحة قوم آخرين ممّن لا يحضرون الاجتماعات الإِسلامية التي تعقد في مجلس النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتقول الآية: ( سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ....) .
وفي تفسير آخر لهذه الجملة قيل أن هؤلاء اليهود كانوا يستمعون إلى أوامر جماعتهمفقطوقد كلّفهم قومهم بأن يقبلوا ما وافق أهواءهم من أقوال النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وأن يخالفوا أو يرفضوا ما كان عكس ذلك من أقواله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وبناء على هذا السلوك فإنّ ما كان يظهر من طاعة هؤلاء لبعض أقوال النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن في الحقيقة إِلاّ طاعة منهم لأقوال كبارهم ووجهائهم الذين أمروهم باتباع هذا الأسلوب ،ولذلك أشارت الآية على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن لا يحزن لمخالفات هؤلاء ،فهم لم يحضروا عنده أبداً من أجل الاستماع إلى الحقّ واتّباعه !
ثمّ تذكر الآية انحرافاً آخر لهؤلاء اليهود ،فتشير إلى تحريفهم لكلام الله سبحانه وتعالى من خلال تحريف الألفاظ أو تحريف المعاني الواردة في هذا الكلام ،فهم إِن وجدوا في كلام الله حكماً يخالف مصالحهم أوّلوه أو رفضوه جملة وتفصيلا ،كما تقول الآية: ( يحرفون الكلم من بعد مواضعه ...){[1050]} .
والأعجب من ذلك أنّ هؤلاء قبل أن يحضروا مجلس النّبي كانوا يقررون كما يأمرهم كبارهم أنّهم إِن تلقوا من محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) حكماً موافقاً لميولهم وأهوائهم قبلوا به ،وإِن كان مخالفاً لهوى أنفسهم ردوه وابتعدوا عنه ،تقول الآية الكريمة: ( يقولون إِن أُوتيتم هذا فخذوه وإِن لم تؤتوه فاحذروا ...) .
فهؤلاء قد غرقوا في الضلال وتحجرت عقولهم لغاية أنّهم كانوا يرفضون كل شيء يخالف ما عندهم من أحكام محرفة ،دون أن يبذلوا جهداً أو عناء في التفكير لمعرفة الحقيقة ،وقد أبعدتهم هذه الحالة عن طريق الرشاد وأخرجتهم من جادة الصواب ،بحيث لم يبق أمل في هدايتهم ،فاستحقوا بذلك عذاب الله ،ولم تعد تنفع فيهم شفاعة الشافعين ،وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً ) وقد تدنست قلوب هؤلاء إلى درجة لم تعد قابلة للتطهير ،وحرمهم الله لذلك طهارة القلوب ،فتقول الآية: ( أُولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ...) وعمل الله مقرون بالحكمة دائماً ،لأن من يقضي عمراً في الانحراف ويمارس النفاق والكذب ويخالف الحق ويرفض الحقيقة ،ويحرف قوانين الله لن يبقى له مجال للتوبة والعودة إلى الحق ،حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال: ( لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) .
أمّا الآية الثّانية فتؤكّدمرّة أُخرىعلى أن هؤلاء لديهم آذان صاغية لاستماع حديث النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا لإِطاعته بل لتكذيبه ،أو كما يقول تفسير آخر فإِنّ هؤلاء آذانهم صاغية لاستماع أكاذيب كبارهم ،فتقول الآية: ( سماعونللكذب ...) وقد تكررت هذه الجملة في آيتين متتاليتين تأكيداً واثباتاً لوجود هذه الصفة الشنيعة في هؤلاء .
كما أضافت الآية صفة شنيعة أُخرى اتصف بها اليهود ،وهي تعودهم وادمانهم على أكل الأموال المحرمة والباطلة من الرّبا والرّشوة وغير ذلك ،حيث تقول الآية: ( أكالون للسحت ...){[1051]} .
ثمّ تخير الآية النّبي بين أن يحكم بينهم أو أن يتجنبهم ويتركهم ،حيث تقول الآية: ( فإِن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم ...) ولا يعني التخيير أن يستخدم النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ميله ورغبته في اختيار أحد الأمرين المذكورين ،بل إن المراد من ذلك هو أن يراعي النّبي الظروف والملابسات المحيطة بكل حالة ،فإن رأى الوضع يقتضي الحكم بينهم حكم ،وإِن رأى خلاف ذلك تركهم وأعرض عنهم .
ولكي تعزز الآية الاطمئنان في نفس النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،إِن هو ارتأى الإِعراض عن هؤلاء لمصلحة أكّدت قائلة: ( وإِن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً ...) .
كما أكّدت ضرورة اتباع العدل وتطبيقه إِذا كانت الحالة تقتضي أن يحكم النّبي بين هؤلاء فقالت الآية: ( وإِن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إِنّ الله يحب المقسطين ) .
وقد اختلف المفسّرون في قضية تخيير النظام الإِسلامي بين الحكم في غير المسلمين بأحكام الإِسلام أو الإِعراض عنهم ،وهل أن هذا التخيير باق على قوته أو أنّه أصبح منسوخاً ؟
ويرى البعض أنّ الناس في ظل الحكم الإِسلامي مشمولون من الناحيتين الحقوقية والجزائية بالقوانين الإِسلامية ،سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين .وبناء على هذا الرأي فإن حكم التأخير إمّا أن يكون منسوخاً وإمّا أنّه يخص غير الكفار الذميين ،أي يخص أُولئك الكفار الذين لا يعيشون في ظل حكم اسلامي ،بل يرتبطون بالمسلمين باتفاقيات أو مواثيق ،أو يكون بينهم علاقات ود وتزاور .
ويعتقد مفسّرون آخرون أنّ الحاكم المسلم يكون مخيراًحتى في الوقت الحاضر لدى التعامل مع غير المسلمين ،فهو إمّا أن يطبق فيهم الأحكام الإِسلامية إِذا اقتضت الضرورة والمصلحة ذلك ،وإمّا أن يعرض عنهم ويحيلهم إلى قوانينهم الخاصّة بهم ،بحسب ظروف وملابسات كل حالة «للإِطلاع أكثر على تفاصيل هذا الحكم تراجع كتب الفقه » .