هنا يعود الشارع لعرض نماذج من شريعة التوراة ،وقد بقيت هذه الأحكام في شريعة الإسلام .والقاعدة عندنا أن شَرْعَ من قبلنا من الأديان السماوية شرعٌ لنا ما لم يرد نسخُه في القرآن .مثال ذلك:{فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} .
فالأصلُ القصاصُ: النفسُ بالنفس الخ ....ثم جاء التسامح الإسلامي بأنَّ من تصدَّق بما ثَبَتَ له من حق القصاص ،وعفا عن الجاني ،كان عفُوه كفّارةً له ،ويكفّر الله بها ذنوبه .وقد تميز الإسلام بتسامحه ،وورد ذلك في كثير من الآيات والأحاديث وسِير الصحابة الكرام .
ويقول النبي عليه الصلاة السلام: «أيعجِز أحدكُم أن يكون كأبي ضمضم ؟كان إذا خرج من بيته تصدَّق بعرضه على الناس » ( أي آلى أن يسامح من قد يشتمونه ) .وأبو ضمضم هذا مّمن كان قبلَنا من الأمم السابقة ،كما جاء في رواية أبي داود .
وروى الإمام أحمد ،قال: «كسرَ رجُل من قريش سنَّ رجل من الأنصار ،فاستعدى عليه معاوية ،فقال: معاوية: استَرضِه .فألحَ الأنصاري ،فقال معاوية: شأنك بصاحبك ،كان أبو الدرداء جالساً فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِن مسلم يصابُ بشيء من جسدِه فيتصدَّق به إلا شرفه اللهُ به درجة ،أو حطَّ به عنه خطيئة » فقال الأنصاري: فإني قد عفوت .
هكذا يعلّمنا الله ورسوله أن نكون متسامحين في أمورنا جميعها ،وأن نطلب العوض من الله .وبعد هذا العرض يعقّب بالحكم الصارم بقوله تعالى:{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} .
إن كل من كان بصدد الحكم في شيء من هذه الجنايات ،فأعرضَ عما أنزل اللهُ من القصاص المبنيّ على قاعدة العدل والمساواة بين الناس ،وحكم بهواه ،فلْيعتبر نفسَه من الظالمين .وجزاء هؤلاء معروف .
في الآية التي قبلها كان الوصف هو «الكافرون » وهنا «الظالمون » ،لكن هذا لا يعني أن الحالة الثانية غير التي سبق الوصف فيها بالكفر ،وإنما يعني الإضافة .فمن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الظالمون .
قراءات:
قرأ نافع: والأذْن بالأذْن ،بإسكان الذال حيث وقع .وقرأ الكسائي وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: والجروحُ ،بضم الحاء .