/م44
{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي وبعثنا عيسى بن مريم بعد أولئك النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متبعا أثرهم جاريا على سننهم ، مصدقا للتوراة التي تقدمته بقوله وعمله أو بحاله .ولفظ قفى مأخوذ من القفا وهو مؤخر العنق .يقال:قفاه وقفا إثره يقفوه واقتفاه ، إذا اتبعه وسار وراءه حسا أو معنى .وقفاه به تقفية جعله يقفوه أو يقفو أثره ، قال تعالى:{ وقفينا من بعده بالرسل} [ البقرة:87] قال في الأساس:وقفيته وقفيته به وقفيت به على أثره إذا اتبعته إياه ، وهو قفية آبائه وقفى أشياخه ، تلوهم اه أي يتلوهم ويسير على طريقتهم .وعيسى عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل وشريعته هي التوراة ، ولكن النصارى نسخوها وتركوا العمل بها اتباعا لبولس .على أنهم ينقلون عنه في أناجيلهم أنه ما جاء لينقض الناموس ( أي شريعة التوراة ) وإنما جاء ليتمم ، أي ليزيد عليها ما شاء الله أن يزيد من الأحكام والآداب والمواعظ الروحية .ولذلك قال تعالى:
{ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} أي أعطيناه الإنجيل مشتملا على هدى من الضلال في العقائد والأعمال كالتوحيد النافي للوثنية التي هي مصدر الخرافات والأباطيل ، ونور يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه من الدلائل والأمثال ، والفضائل والآداب ، ومصدقا للتوراة التي تقدمته ، أي مشتملا على النص بتصديق التوراة ، وهذا غير تصديق المسيح لها بقوله وعمله أو حاله .وصفه بمثل ما وصف به التوراة ، وبكونه مصدقا لها ، ثم زاد في وصفه عطفا على تلك الأحوال فجعله نفسه هدى من وجه آخر وموعظة للمتقين ، ولعله ما انفرد به من المسائل الروحية والمواعظ الأدبية وزلزلة ذلك الجمود الإسرائيلي المادي ، وزعزعة ذلك الغرور الذي كان الكتبة والفريسيون من اليهود مفتونين به .وخص هذا النوع بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون به إذ لا يفوتهم شيء من الكتاب لحرصهم عليه وعنايتهم به .والحكمة في هذا النوع من الهدى والموعظة فقه أسرار الشريعة ومعرفة حكمتها والمقصد منها ، والعلم بأن وراء تلك التوراة وهذا الإنجيل هداية أتم وأكمل ودينا أعم وأشمل ، وهو الذي يجيء به النبي الأخير ( البارقليط ) الأعظم ، ولولا زلزال الإنجيل في جملته لتلك التقاليد وزعزعته لذلك الغرور ، وأنس الناس بما حفظ من تعليمه عدة قرون ، لما انتشر الإسلام بين أهل الكتاب في سورة سورية ومصر وبين النهرين بتلك السرعة .